اطلالة على كتاب " جدليَّة الأنا والآخر في الخطاب الشعري في المُفضَّليات"
بقلم حنّا ميخائيل سَلامة نُعمان
لا شكَّ أنَّ أقلاماً كثيرةً جَرَت فكتبت عن مؤلفاتٍ مِن خزائن مكتبتنا العربية العريقة، وليس مَن يُنكر أنها وُفِّقَت إلى حدٍ كبيرٍ في الأغراض التي ابتغاها أصحاب تلك الأقلام فأخَذَتْ مؤلفاتهم مواقعها على أرفُف المكتبات وصارت تحت نظر المُهتمين والباحثين. ولأن الخزائن المُشار اليها لا تزال غنية بمؤلفات لم تُسلط عليها الأضواء مِن بعد، نجدُ الباحثة القديرة الأكاديمية زينة محي الدِّين غنيم تَسْتَلُّ مِن ذخائر تلكَ الخزائن "عِشقاً منها للأدب القديم وأهمية معالجته من منظور حديث" كتاباً قيِّماً اسمُه" المُفضَّليات" لا لِتُضيءَ عليه إضاءَة عابرة فحسب، فهذا لو شاءَت لكانَ بالأمر اليَسير عليها، لكن لعَقدها العَزم أن تخوض فيه مِن خلال مُحَاجَة منطقية ومنهج بحث تحليلي يسبر أبعاده الفلسفية والنفسية والاجتماعية وبطريقة لم يجرِ تناولها مِن قبل، ويتبدى هذا جليَّاً مِن مُجرَّد النظر للعنوان الذي اختارته لكِتابها " جدلية الأنا والآخر في الخطاب الشعري في المُفضَّليات؛ تجليات البقاء والفناء في الخطاب الشعري لشعراء المُفضليات في ضَوء علاقة الأنا بالآخر".
وقد ضمَّ كتاب المُفضَّليات في نسخته الأصلية نحو مئة وثمانٍ وعشرينَ قصيدة شكلت مِرآةً لحياة العرب وللظروف المحيطة بهم وواقع أحوالهم، واعتُبِرَت مِن روائع مخزونِ الشِّعر وأجمله في العصر الإسلامي وما سَلَف مِن عُصورٍ، وكان اختارها " عَلاَّمَة وراوية الأخبار والآداب وأيام العَرَب" المُفضَّل بن محمد بن يَعلى الضَّبي الكوفيّ المتوفى سنة 747م. وغايته من ذلك تلبية أمرِ أبي جعفر المنصور في تعليم ابنه محمد المهدي في سِنٍ مُبكِّرٍ من عُمُره صَقلاً لِلسَانهِ وتوسيعاً لمداركه.
تقول الباحثة في معرض تقديمها لكتابها الذي برز للنور حديثاً:" اخترتُ أن أتناول المُفضَّليات بالدراسة والتحليل من منظور نفسي واجتماعي وارتأيت أن أسلط الضوء على الحوار الدائر بين الأنا والآخر في الخطاب الشعري فيها، لِما لهذه الثنائية من أهمية في الكشف عن التداعيات النفسية للشاعر وكشف الستار عن نظرته للوجود من خلال تَجْلية علاقة أنَاهُ بالآخر على اختلافه وتعدده". وتُضيف: " هذه الثنائية تُفضي إلى فهم علاقة الشاعر ببيئته ومجتمعه على اعتبار أن الآخر هو كل ما يقع خارج الأنا..".
وقد ضمَّ الكتاب بين دفتيه نحو مئتين وستين صفحة غطَّت موضوعات حملت عناوينَ منها "علاقة الأنا والآخر في حقل العلوم الإنسانية من مناظير نفسية وفلسفية واجتماعية"، " موقف الأنا من الآخر، الأنا بين الذات والهوية، الأنا والآخر في الخطاب الشعري في كتاب المُفضّليات". وتجد في الكتاب مباحثَ متنوعة تتحدث عما هو خارج الذات وكل ما يتصل بالآخر، فتُحلِّل من خلال رؤية فلسفية وأدبية ناقِدة ومن خلال نماذج شِعرية مكنون نفس الشعراء وما يقلقهم وانسحاب هذا على أشعارهم حين يتحدثون عن مُحيطهم البيئي والدوارس والأطلال وذكرياتهم فيها. وتعكس تلك القصائد حياة البداوة والترحال والخيل والإبل وسائر الحيوانات المتوفرة في المكان. كما تجيء على مواقف الشجاعة والفروسية ومجمل المآثر دون تناسٍ للمَثالب إن توفرت في قصائد مُعيَّنة. وتجدُ في الوقت نفسه مباحثَ عن علاقة الأنا وأصحاب السُّلطة أو مُمَن يُمثلهم، والنهج المتَّبع في مخاطبتهم، والأنا والقبيلة، وعلاقة القبائل مع بعضها البعض "والفخر الجماعي الممزوج بالحماسة تجسيداً للانتماء للقبيلة وتماهي" الأنا" في ال" نحن" والذوب في بوتقتها "على حدِّ وصف الباحثة.
إن هذه الإطلالة على كتاب " جدلية الأنا والآخر في الخطاب الشعري في المُفضَّليات" لا تُغني عن قراءَته للإفادة من مَضامينه ولتوسيع آفاق المعرفة على ضَوء غاية المؤلِّفة الفاضلة في تقديم الشيء الجديد عن الكتاب. وفي الحقيقة أنني تمعنت ملياً في موضوعات الكتاب والقصائد الواردة فيه فوجدته ثَرياً بمحتوياته ورأيتُ ألا يكون تحت نظر عُشاق الأدب العربي القديم فحسب، بل أن يكون محطَّ نظر واهتمام الباحثين في عِلم النفس وعِلم الاجتماع. كذلك الشريحة العاملة في مراكز الحِوار ومنتدياتها بشتى المُسمَّيات التي تسعى في برامجها للانطلاق من حبِّ الذات والأنا لتقريب الآخر والانفتاح عليه وعلى ثقافات العالم. فالباحثة تُركِّز على أنه "لا يمكن أنَّ هناكَ "أنا" دون وجودٍ للآخر المختلف؛ "الأنا" ذات وجود اجتماعي أكثر من كونها ذات وجود فردي؛ لا يدرك الإنسان هويته إلا عند اصطدامه بثقافات أخرى".
وحريٌ الإشارة، إلى أن الأستاذ الدكتور حمدي منصور أستاذ الأدب القديم ونقده في الجامعة الأردنية، كان قدَّم للكتاب وأشارَ إلى أن" الباحثة استطاعت من خلال روائع شِعرنا القديم أن تستخرج لنا من أشعار المفضليات وقصائدها دُرراً نفيسة تكشف لنا عن علاقة الأنا بالآخر..." كما وأشاد حفظه الله " بِلُغَة الكتاب العالية الراقية وأسلوبها العلمي الرصين ورؤيتها الدقيقة الكاشفة ".
بقي أن نُزجي تهنئة للباحثة الأكاديمية الموهوبة زينة غنيم على حُسن اختيارها لكتاب المفضليات ولجهودها الفكرية وسهرها في الدرس والبحث وتقليب ما يناهز مئة وعشرين مرجعاً ومعجماً ليكون كتابها " جدلية الأنا والآخر في الخطاب الشعري في المُفضَّليات" متكاملاً متميزاً يُغني المكتبة العربية ويكون عوناً للدارسِين والمهتمين.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
وَقفَةٌ أمامَ" مَوسوعة عَمَّان أيام زمان"
حنّا ميخائيل سَلامة
مشروعٌ توثيقيٌ شَرَّع نوافذ على أدوار نموِّ عَمَّان وأطوار تقدُّمها وتوقفَ عند محطات وأحداث وانجازات مختلفة، رافق ذلك كلّه لقاءات مع شخصياتٍ عديدة عَقدَ المؤلِّف صلات مَعها وكان تضَوَّع عَبيرها في الآفاق للخَدمات التي أسْدَتها كما جميع المخلصين لعاصمتنا الغالية.
لقد أراد مؤلِّف موسوعة عَمَّان المؤرِّخ الباحث الأستاذ عُمر العَرموطي لفتَ الأبصار وتعميق الفَهْم وتعميم المعرفة بعاصمتنا الجميلة من خلال هذا التوثيق المُوَفَّق الذي جاء بعد جهود مُضنية وَسَهرٍ وبحث ميداني وكانَ صدرَ في عشرة أجزاء عَمل المؤلِّف على إتمامها بِغِيرةٍ وعزيمةٍ ومدفوعاً مِن عُمق انتمائه الوطني مُستلهماً هذا مِن والده طيِّب الذِّكر المرحوم محمد نزال العَرموطي "سنديانة عمان؛ الرَّجُل الذي علمنا كيف يكون الانتماء الحقيقي للوطن" كما أورد في إهداء الموسوعة لروحه الطاهر.
لقد تابعتُ وأنا أقرأ أجزاء الموسوعة وصولاً لِلجُزأين التاسع والعاشر وقد خصَّهُما المؤلِّف ليكونا بمناسبة مرور مئة سنة على تأسيس الدولة الأردنية، تابعتُ ما كان يُكتَب عنها في وسائل الاعلام المختلفة وفي مقابلات ومِن خلال ندوات وحوارات فوجدت أقلاماً كثيرةً خاضت في غِمارها فأوسَعَتها تبياناً لمضامينها وسلَّطت الأنوار على معلومات وحقائق ومُذكِّرات تستحق الوقوف عندها لمزيدٍ من المعرفة ولاستخلاص العِبَر. إزاء هذا الواقع، حَملتني الرغبة أن أًجري قلمي فأعطي صاحب الموسوعة شيئاً من حقه، وقد عَرفته لِما يزيد عن عَقدين مِن الزمن قامة فِكرية نالت احترام الناس ومحبتهم لِما تتمتع مِن خِصالٍ حميدةٍ. وأُضيف إلى هذا، أنَّني قدَّرتُ في عُمَرَ خبرته القَلَميَّة التي دعَّمَها بالمطالعة المستمرة وتنقيب الكُتُب لتغذية الفِكر، لذا نراهُ وقد وضع نُصب عينيه أن يشتغل بالتأليف ليس لأهداف مادية، بل لخدمة المسيرة الثقافية ولتكون تلك المؤلفات بما في ذلك التوثيقية التي تُظهر البون الشاسع بين أمسِ عَمان وحاضِرها تحت أنظار المهتمين والراغِبين في تقصِّي تاريخ عاصمتنا " القلب الدَّافِق" على حَدِّ وَصفه.
وجديرٌ القول، أنَّ الباحث الأستاذ عمر العرموطي قد انتصرَ لعَمانَ فتحفَّزَ خاطره وتوقدت عزيمته لإجراء مقابلاتٍ كثيرة اتسمت بالعَفوية والصراحة في سَردِ الذكريات مع رجالاتٍ مِن الرعيل الأول وشخصيات كان لها بصمات واضحة على مسيرة عمان وتطورها في ميادين مختلفة. هذا إلى جانب تحرُّكهِ بنفسه لتقديم بثٍ مُباشرٍ من مناطق عمان وجبالها وأحيائها وشوارعها وأدراجها، فتجده يتحدثُ بلغة المُتمَكِّن العارف بشؤون تلك المواقع وبجُذور تسمياتها ومراحل نموها وتقدمها وأحوالِ نَاسِها. متعاملاً في هذا كله مع الواقع كما هوَ ومن أفواه الناس. وتجدر الإشارة إلى أن انتصارَ المؤلِّف لعَمانَ لم يُنْسِهِ محافظات أخرى فنجدها ومُدنها حاضرة في جوانبَ عديدة من ضِمن الموضوعات والمُذكَّرات والمقابلات المُخزَّنة في فصول الموسوعة.
بقيَ أن أُشير، إلى الصالون الأدبي الذي أقامه المؤلِّف ليستقبل فيه بين حينٍ وآخر شخصيات فكرية وأدبية وإعلامية حيث يجري تبادل الآراء وطرح الذكريات وتناول شؤون عامة بهدف نشر الوعي وتوسيع آفاق المعرفة. وهذا كله كان يوثق ونراه توزَّعَ ليُساندَ عناوين كثيرة في فصول الموسوعة لا سيما تلك التي تطرقت لِصُور ناصعة من التلاحم الوطني والوئام الديني والتآلف الاجتماعي.
أبارك للزميل الأستاذ الباحث المؤرخ عمر العرموطي جهوده المثمرة ونجاحه المشهود له في إخراج موسوعة " عمَّان أيام زمان " للنور وقد جاءت بِلُغَةٍ سَهلة التراكيب جميلة السَّبْك ومعزَّزة بالصُّوَر حيثما اقتضت الحاجة التوثيقية ولمزيدٍ من الإيضاح. كما أرى ضرورة أن تكون الموسوعة تحت أنظار مَن يعنيهم الأمر ففيها مِن الملاحظات والخِبرات التي وردت في مقابلات متفرقة ما يدعم مسيرة التنمية والتطوير والتحسين لبلدنا الغالي.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.