وَقفَةٌ أمامَ" مَوسوعة عَمَّان أيام زمان"
حنّا ميخائيل سَلامة
مشروعٌ توثيقيٌ شَرَّع نوافذ على أدوار نموِّ عَمَّان وأطوار تقدُّمها وتوقفَ عند محطات وأحداث وانجازات مختلفة، رافق ذلك كلّه لقاءات مع شخصياتٍ عديدة عَقدَ المؤلِّف صلات مَعها وكان تضَوَّع عَبيرها في الآفاق للخَدمات التي أسْدَتها كما جميع المخلصين لعاصمتنا الغالية.
لقد أراد مؤلِّف موسوعة عَمَّان المؤرِّخ الباحث الأستاذ عُمر العَرموطي لفتَ الأبصار وتعميق الفَهْم وتعميم المعرفة بعاصمتنا الجميلة من خلال هذا التوثيق المُوَفَّق الذي جاء بعد جهود مُضنية وَسَهرٍ وبحث ميداني وكانَ صدرَ في عشرة أجزاء عَمل المؤلِّف على إتمامها بِغِيرةٍ وعزيمةٍ ومدفوعاً مِن عُمق انتمائه الوطني مُستلهماً هذا مِن والده طيِّب الذِّكر المرحوم محمد نزال العَرموطي "سنديانة عمان؛ الرَّجُل الذي علمنا كيف يكون الانتماء الحقيقي للوطن" كما أورد في إهداء الموسوعة لروحه الطاهر.
لقد تابعتُ وأنا أقرأ أجزاء الموسوعة وصولاً لِلجُزأين التاسع والعاشر وقد خصَّهُما المؤلِّف ليكونا بمناسبة مرور مئة سنة على تأسيس الدولة الأردنية، تابعتُ ما كان يُكتَب عنها في وسائل الاعلام المختلفة وفي مقابلات ومِن خلال ندوات وحوارات فوجدت أقلاماً كثيرةً خاضت في غِمارها فأوسَعَتها تبياناً لمضامينها وسلَّطت الأنوار على معلومات وحقائق ومُذكِّرات تستحق الوقوف عندها لمزيدٍ من المعرفة ولاستخلاص العِبَر. إزاء هذا الواقع، حَملتني الرغبة أن أًجري قلمي فأعطي صاحب الموسوعة شيئاً من حقه، وقد عَرفته لِما يزيد عن عَقدين مِن الزمن قامة فِكرية نالت احترام الناس ومحبتهم لِما تتمتع مِن خِصالٍ حميدةٍ. وأُضيف إلى هذا، أنَّني قدَّرتُ في عُمَرَ خبرته القَلَميَّة التي دعَّمَها بالمطالعة المستمرة وتنقيب الكُتُب لتغذية الفِكر، لذا نراهُ وقد وضع نُصب عينيه أن يشتغل بالتأليف ليس لأهداف مادية، بل لخدمة المسيرة الثقافية ولتكون تلك المؤلفات بما في ذلك التوثيقية التي تُظهر البون الشاسع بين أمسِ عَمان وحاضِرها تحت أنظار المهتمين والراغِبين في تقصِّي تاريخ عاصمتنا " القلب الدَّافِق" على حَدِّ وَصفه.
وجديرٌ القول، أنَّ الباحث الأستاذ عمر العرموطي قد انتصرَ لعَمانَ فتحفَّزَ خاطره وتوقدت عزيمته لإجراء مقابلاتٍ كثيرة اتسمت بالعَفوية والصراحة في سَردِ الذكريات مع رجالاتٍ مِن الرعيل الأول وشخصيات كان لها بصمات واضحة على مسيرة عمان وتطورها في ميادين مختلفة. هذا إلى جانب تحرُّكهِ بنفسه لتقديم بثٍ مُباشرٍ من مناطق عمان وجبالها وأحيائها وشوارعها وأدراجها، فتجده يتحدثُ بلغة المُتمَكِّن العارف بشؤون تلك المواقع وبجُذور تسمياتها ومراحل نموها وتقدمها وأحوالِ نَاسِها. متعاملاً في هذا كله مع الواقع كما هوَ ومن أفواه الناس. وتجدر الإشارة إلى أن انتصارَ المؤلِّف لعَمانَ لم يُنْسِهِ محافظات أخرى فنجدها ومُدنها حاضرة في جوانبَ عديدة من ضِمن الموضوعات والمُذكَّرات والمقابلات المُخزَّنة في فصول الموسوعة.
بقيَ أن أُشير، إلى الصالون الأدبي الذي أقامه المؤلِّف ليستقبل فيه بين حينٍ وآخر شخصيات فكرية وأدبية وإعلامية حيث يجري تبادل الآراء وطرح الذكريات وتناول شؤون عامة بهدف نشر الوعي وتوسيع آفاق المعرفة. وهذا كله كان يوثق ونراه توزَّعَ ليُساندَ عناوين كثيرة في فصول الموسوعة لا سيما تلك التي تطرقت لِصُور ناصعة من التلاحم الوطني والوئام الديني والتآلف الاجتماعي.
أبارك للزميل الأستاذ الباحث المؤرخ عمر العرموطي جهوده المثمرة ونجاحه المشهود له في إخراج موسوعة " عمَّان أيام زمان " للنور وقد جاءت بِلُغَةٍ سَهلة التراكيب جميلة السَّبْك ومعزَّزة بالصُّوَر حيثما اقتضت الحاجة التوثيقية ولمزيدٍ من الإيضاح. كما أرى ضرورة أن تكون الموسوعة تحت أنظار مَن يعنيهم الأمر ففيها مِن الملاحظات والخِبرات التي وردت في مقابلات متفرقة ما يدعم مسيرة التنمية والتطوير والتحسين لبلدنا الغالي.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
إضاءَةٌ على كتاب "المسيحية المُعاصرة في الأردن وفلسطين "
تأليف الأب د. حنا كلداني
بقلم: حنا ميخائيل سلامة نُعمان
"تاريخُ الكنيسة جزءٌ عظيمٌ من إرثِ البشرية، وفيهِ كَنْزٌ دفينٌ هو حُبُّ الله سُبحانه وتعالى للبَشَر. وهذا الكَنْز الأسمى نَحْمِلُه في إناءٍ من خَزف، فَمَيِّز _ أيها الأخُ الحبيب _ بينَ الإناءِ وَالكَنْز، واقرأ ما كتبنا لكَ لا هروباً إلى الماضي ودفناً لِفكركَ بين سُموِّه وإخفاقهِ، ولكن لتصنعَ الحاضر وتبني المستقبل المُشرق، فالتاريخ مسيرةٌ إلى الغدِ لا عودةٌ إلى أمسِ" بهذه الفقرة الزَّاخِرة بالأبعاد والدِلالات يُمهِّد قُدس الأب الفاضل د. حنا سعيد الكلداني لكتابه القَيِّم المُعَنون "المسيحية المعاصرة في الأردن وفلسطين". وفي الحَقِّ أنِّي عُدتُ لقراءَته قراءةً متأنيةً مِن جديدٍ بالرغم من مرور سَنواتٍ على صُدورهِ كَيْ أنْهَلَ مِن مَعينهِ وأقِفَ على ما وردَ فيه من مخزون تاريخي وديني واجتماعي، ولأتمَعَّنَ في التَّوثيق النَّاجِز التَّام والمُوفَّق لِمرحلةٍ مِفْصَلية مِن تاريخ سائر الكنائس في فلسطين والأردن، هذه التي شَهِدت جُملةَ حوادثَ وأحداث وتقلبات ومحطات تستحق الوقوف عندها والتَّفَكُّرَ في مُجرياتها لاستخلاص العِبَر. وقد تكشَّف لي بجلاءٍ أنَّ الكتابَ وكما قال مُؤلِّفه في مَعرِض تقديمه "لا يتناول تاريخاً قديماً اندثر، بل تاريخاً حديثاً ما زالت أحداثه وشخصياته ذات فعل في أيامنا هذه وموضوع محاورة بين أبناء الكنائس التي شملتها موضوعات الكتاب ودراساته".
والكتابُ ثمرةٌ لدراسة بَحثية أكاديمية شاملة افتقرت لمثلها مكتبتنا العربية كونها جاءَت "بروحٍ مَسكونية عِلمية لتاريخ كنائس بلادنا المقدسة، ولِما طرأ على بُنْيَة الوجود المسيحي في فلسطين والأردن في القرن التاسع عشر". وكانَ اشتغلَ على الدراسة هذه قُدس الأب الفاضل د. حنا كلداني لسنواتٍ غير قليلة مِن البَحث والتَّحَقُّقِ والسَّهرِ في تقليبِ المراجع والمخطوطات في عدة دولٍ وَبِلُغَات مُختلفة يُتقِنها، مُضيفاً اليها ما كان يختزنه مِن سنوات تحصيلهِ إبَّانَ دراسته في المعهد الإكليريكي وما تلاها مِن خبرةٍ واسعةٍ جرَّاءَ خدمته الرعائية في أبرشيات ومواقع عديدة. وكان نال على الدراسة المُشار اليها درجة دكتوراة سَبقها نيله درجة ماجستير في التاريخ من جامعة القديس يوسف اليسوعية سنة 1983 لدراسة تحليلية حَملت عنوان" إعادة تأسيس البطريركية اللاتينية في أورشليم بين الأعوام 1847-1872.
وقد ضمَّ الكتاب بين دفَّتيه أربعمائة وستٍ وستين صفحةً مِن القَطع الكبير توزعت على أربعة أبواب تفرَّعَ منها أربعة عشر فصلاً مُتَنَوِّعَ التَّشَعُّبات. فمن بابٍ عُنوانه " البطريركية الأورشليمية الأرثوذكسية" إلى بابٍ عُنوانه" البطريركية اللاتينية الأورشليمية"، وجاءَ الباب الثالث بعنوان "الأسقفية الأنكليكانية " والمقصود فيها الكنيسة "البروتستنية/ الإنجيلية"، أما الرابع فعنوانه " الكنائس الشرقية غير الخلقيدونية والشرقية الكاثوليكية". والخلقيدونية نسبة إلى مدينة تحمل المُسمى نفسه شرقي تركيا حيث اجتمع آباء الكنيسة سنة451م.
وتزدهِرُ الموضوعات لتُغطِّي نشأةَ كُلِّ بطريركية وتاريخها بما في ذلك الأسقفيات والكنائس المتعددة والرهبانات ودَوْر كُلٍّ منها في أداء رسالتها في ظِلِّ الأوضاع السائدة والمُحيطة إبَّانَ العهد العثماني والظروف الدولية. وَتجدُ سِيَر حَياة البطاركة والأساقفة والكهنة الذين غاب ذِكْرُهم عن ذاكرة وأقلام مؤرِّخين لم يُنْصِفوا التاريخ ورجالاتهِ بكتاباتهم، حيث بيَّن المؤلِّف بتوسُّعٍ وإنصافٍ ما واجهوه مِن عقبات وصعوبات وعن صُمودهم بوجه التحديات والجَوْر في ظل ظروف صعبة وتهديداتٍ نالَ بعضهم الشَّهادة على إثرها تَمسُّكاً مِنهم بالرسالة الكهنوتية المقدسة التي كرَّسوا أنفسهم لها. يَجيءُ هذا إلى جانبِ ما قدَّموه وتفَانَوا مِن أجله وما أنجزوه في حقبة كلٍ منهم "لإرساء قواعد تاريخ المسيحية المعاصر في شرقنا العربي" وكانَ واكبَ ذلكَ كلِّه تبيانٌ لِمُعاناةِ مسيحيينَ مِن شَظف العيش والغَزَوات والجَلاء القَسْري الذي لم يَفُت مِن عَضُدِهم أو يهتز له تَمسُّكهم بإيمانهم المسيحي. ويُورِد الأب كلداني في مَوضعٍ من الكتاب كمثالٍ "كيفَ عاشَ كهنة البطريركية اللاتينية وراهبات الوردية العَرَبيَّات واقعَ رعاياهم وعشائرهم التي انحدروا منها، واختبروا ظروف المؤمنين الحياتية فرافقوا الجماعات المسيحية في حِلها وترحالها يُقيمون الصلوات ويفتحون المدارس في أقصى القُرى ومضارب العُربان في البادية مما قربهم إلى أفئدة المؤمنين وحبَّبهم إليهم".
وبينَ دِفَّتي الكتاب صَفَحات تتعلق بالإرساليات الأجنبية بمسمياتها المختلفة، هذا إلى جانب إضاءاتٍ مُهِمَّة على دَوْر حراسة الأراضي المقدسة مع إيضاحٍ للجذور التاريخية لنشأة الحِراسة ورسالتها وتنظيمها وَصَلاحياتها ومُنجزات الآباء الرُّهبان الفرنسيسكان الهامة في الأصعدة المختلفة. كذلك ما يختص بشؤون الأبرشيات والأديار والكنائس بجميع أطيافها ورسالتها الرُّوحية والدينية والرعائية والإنسانية وبدايات تأسيسها "لتكون شاهدة للإيمان المسيحي في بلاد شهدت انطلاق المسيحية الأولى" في أرجاء فلسطينَ وعلى مساحة الأردن كلِّه. ومُعرِّجاً على جَمعياتِ رَهْبَاناتِ الوردية وتأسيس أول رهبنة وطنية. وتجِدُ حِصةً في الكتاب للجمعيات الدينية والخيرية والتعليمية والثقافية ومشاريع مراكز الإيواء والمياتم والمشافي.
وتمضي في الكتاب فتُطالِعُكَ التشريعات المختلفة وتعليمات المَجامع الإيمانية ورسائلَ عقائدية ولاهوتية وتربوية موجهة للإكليروس والمؤمنين. كما تقعُ العَينُ على ما يختصُّ بتعريب البطريركية الأنطاكية بالإضافة لِما تَوَفَّر من بحوثٍ ودراسات عن تاريخ المسيحية منذ اطلاقتها في مهدها وعن "القدس موئل جميع الكنائس" وسائرِ الأماكن المقدسة "بِرُوحاَنيتها ورسالتها الإلهية التي تَروي قصة لقاء الله المُتَجَسِّد مع الإنسان". وتُقلِّب الصفحات فَتجِدَ موضوعات تتعلق بالوجود الروسي في فلسطين" وما أنجزته أيدي أبناء روسيا المقدسة في الأماكن المقدسة وعن حُجَّاجِهم والوِكَالات التي كانت تؤمِّن وصولهم وإقامتهم وتنقلهم. أولئكَ الذين اتسموا وكما ورد في موضعٍ من الكتاب على لسان ميخائيل نعيمة " بالبساطة المتناهية البادية في وجوههم ومظاهر التقوى في جميع حركاتهم.."
وقد تفطَّنَ المؤلِّفُ بعينهِ البَصيرة إذْ أوردَ تلكَ الحِقَب التي شَهِدت حركات انشطارٍ وتَجزؤٍ وما جرى من محاولات لإعادة لُحْمَتِها لتكون واحدة، فنجده وقد ركَّز في موضعٍ من الكتاب على تصويب المفهوم السائدِ عند العَامَة مِن الناس بخصوص تعدُّد الكنائس بقوله: " التعددية لا تعني الانقسام أو الانشقاق، بل التنوع في الوَحدة بمعناها الرَّحْب، والوَحْدَة هي أمنيَّة السيد المسيح القائل:" ليكونوا واحداً كما نحنُ واحدٌ" أمَّا التنوع فهو من طبيعة البشر الذين خلقهم الله على صورته وَمِثاله في المحبة والادراك والروحانية، لكنهم متميزون في خصائصهم وألوانهم وَطِباعهم، فَتُقْبِلُ كلُّ جَماعةِ مُؤمنينَ وعبرَ العصور فتحمِلُ معها إرثها الليتورجي وتُراثها التعليمي والثقافي لإثراءِ كنز الكنيسة الجامعة الكبير الواحد، ولإشراك الجماعات الأخرى أيضاً بما لديها في إطار الإيمان الواحد والمعمودية الواحدة ".
إنَّ هذه الإضاءة على هذا المُنْجَز لا تُغني عن قراءَتهِ فهو مَخزنٌ مَعْرِفِيٌ مُحتَشدٌ بالمعلومات يَشهدُ لكنيستنا ولتضحيات البُناة والمؤسسين والرُّواد الذين أعْلَوا القِيم الروحية والمُثُل الإنسانية. وقد جاء هذا كله ضِمنَ توثيقٍ دقيقٍ يستند لمراجعَ ومصادرَ ومخطوطات عربيّة ومُعرَّبة وأجنبية.
ولا يفوتني في الخِتام أنْ أُقدِّمَ الثناءَ العَاطِرَ والتَّجِلَّة الوافرة إلى سيادة المونسنيور د. حنا كلداني -المُنْعَمِ عليه بهذه الرتبة الموقَّرة من الكُرسي الرسولي- فقد أسْدى حفِظَه الله خِدمةً كبيرةً بإنجازه هذا الكتاب الذي ما أن تُرجِمَ للغة الإنجليزية حتى رحبت به دارُ نشرٍ أمريكية مُعْتبَرة وأخذت على عاتقها مسؤولية توزيعه. وهذا مَدْعاةُ فَخرٍ لنا ليعرف غير الناطقين بالضَّادِ تاريخ الكنائس في منطقتنا وجهاد ومُجاهدة وتعب وتضحيات رُعاتها وأحوال المؤمنين في حُقبة مِفصَلية لها خصوصيتها. وعلى ضَوءِ هذا فإنِّي أرى وأُحَفِّزُ هُنا على تعميم المعَرفة بتاريخ كنائسنا ومسيرتها وما مَرَّت به في ظروفٍ وأحداث عبر العصور للضرورة المُلحَّة مِن خلال حلقات دراسية ومحاضرات ونَدَوات لتوسيع المداركِ ولنضوج فكري أوفر، في وقت تتبدَّى فيه ضَحالة المعلومات لدى شريحة واسعة في مجتمعاتنا ورعايانا.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.