" والأمُّ أَوْلى بإكرامٍ وإحسانِ.."
حنا ميخائيل سلامة
كلَّما أطلّ عيد الأمِّ طافَ الخاطِر بمَا نظمَه مِن جُملة ما نَظَم مِن روائع الشاعر الفيلسوف المَعرِّي المُنتقل لرحمة الله سنة973م.:
والعيـشُ ماض ٍ فأكرم وَالِدَيكَ بـهِ والأمُّ أولـى بإكـرامٍ وإحســان ِ
وَحَـسبُها الحملُ والإرضاعُ تُدْمِنُهُ أَمرانِ بالفضلِ نالا كلّ إنسانِ
هذان البيتان مِن الشِّعر لو أردنا تسطير مقالةٍ مستقلة عمَّا يَحملان مِن عِبرَة ونُصْحٍ وموعِظة لكان ذلك جائزاً مُحبَّبَاً. وليس بمستغرب أن صاحب البَصيرة الحادة رغمَ ذهاب بَصَرِه، المُتوقِّد ذكاءً المَعرِّي هو عيْنُه مَن نظمَهما وأراهما يَصلُحان وبهما حيوية وديمومة وكأنه يخاطب من خلالهما إنسان عصرنا هذا. وإذا كان المَعريّ يدعو لإكرام الوَالِدَيْن معاً فإنه يُرجِّح في الوقت نفسه كَفَّة الميزان للأمِّ مُسلِّطاً الضَّوءَ على مُهمَّتها الجليلة المتميزة قبل ولادة المولود وما يتلو ذلك من مسؤولياتٍ غير مُعْرِضة أو مُتوانية إنما مُمْعِنَة راغبة حُباً منها أو كما وصفَ "مُدْمِنة".
تَحمل الأُمُّ بشَمَمٍ إرثَ الآباء والأسلاف، وتراها تؤسس بيتها على المحبة والحنان ومكارم الأخلاق وَتَجدُها تغذي أطفالها على الخلق والفضيلة لإنشاء مجتمع على ركائزَ مَكينةٍ نبيلة. إنها زهرة طهر وعفاف تزين صدر رَجُلِها، وهي الأمينة عليه الحافظة لعهده والمُدْرِكَة للحياةِ بقلبها وعقلها مَعاً. وهي عَينُها مَن يُضفي على الحياة عُذوبة وحلاوة فَتُحيطُ بالأمور والضِّيقات صابرة صَبورة، نهجُ حياتها أنْ تجمعَ ولا تفرق، أنْ تجبر ولا تكسر، أنْ تعفو ولا تَدِين. إنها هيَ وليس سِواها مَن تُضمِّد جراح زوجها المتعب من مشقات سعيه لتأمين رزق أبنائه ومستقبلهم. وغاية سعادتهما تتجسَّدُ في تربية أبنائهم وتهذيبهم واعدادهم وصقلهم بالمثل العليا ليكونوا عُدّة المستقبل في تكوين أُسَرٍ مُتحابة نَموذجيةٍ تحفظ عهدَ الوَالِدَين وتَذْكُرُ متاعبهم وتضحياتهم نحوهم، وليكونوا أيضاً دُعاةً للخير والبِرِّ وعناصر بناء لمجتمعهم ووطنهم.
وكلما أطلَّ عيد الأُمِّ تعود بنا الذاكرة لشهادة الوفاء الرائعة التي سجلها التاريخ على لِسَان نابليون لأمِّه يقول فيها: "إنَّني مَدين لأمي بكل ما حُزتُه من الفَخار، وما فُزت به من العَظَمة، لأن نجاحي كان ثمرة مبادئها القديمة وآدابها السَّامية". كما تعود بنا الذاكرة لردٍ مِن أحد حُكماء التاريخ حينَ سُئِل عن أروع كتاب قرأه فأجاب: إن أروعَ كتابٍ قرأته "أمي".
وإزاءَ مُجملِ ما سبق ذِكْره وفي الجُعْبة الكثير، فإننا وحيثــُما حَلَلْنا، نَسمَعُ قِصصاً مؤسفة عن تردِّي مُعامـَلةِ أبناءَ لِوَالِديِهم، ونـُكرانهِم لتلك المحبة والحنان والمشقات والآلام وللمشقـَّات والآلام التي احتملوها في تنشئتِـهـِم وتربيـَتِهِم وتعليمهم والسـَّهَرِ عليهم، في الصـِّحةِ والمرض، في الشـِّتاءِ الباردِ والصـَّيفِ اللاهب، في ذهابـِهـِم وإيابـِهم.. ومَا إلى ذلكَ الكثير الكثير.
ولعل الأمر الذي يُحزن القلب، أنَّ هناك مِن الأبناء مَن يعتبرونَ الآباء والأمَّهات من حسابات الماضي ويهمسون في جلساتهم مع أقرانهم أنَّ عقلياتهم عتيقة ويتندَّرون عن قرارات كانوا اتخذوها وكانت حينها سليمةً كما ينبغي أن تكون في وقتها وزمانها.. وفوقَ هذا تراهم يتشامخونَ عليهم ولا يستمعونَ لنـُصحِهِم وتوجيهِهم ورؤيتهم العميقة للحياة بـِما مرَّ عليهم من تجارب وخِبرات! وما يُحزِن القلب أيضاً قيام أبناءٍ بإيداعِ آبائـِهِم في دورِ رعايةٍ ثـُمَّ الاحتجاب عن زيارتهم، بل تناسيهم، سوى من حِفنـَةِ دنانير يرسلونها مع مُراسِليهم لمُحاسبيّ الدور بينَ الفـَينةِ والفينة. وما أن يصل خبر انتقال والدِ أحدهم إلى رحمةِ الله، حتى يـُسارِع الابن الجاحد إلى إنشاءِ صيوان عزاءٍ كبير، ليـُمثـِّلَ أمام الناس دوراً مُتقناً في مسرحيةٍ محدودة الأيام يُبدي فيها حُزناً وأسىً. والحالُ عينـُهُ، عندما يـُلقي أحدُهم أمـَّهُ التي أرضعتهُ من ثـَديها على الرَّغمِ من المتاعِبِ الجسدية والنـَّفسية التي كانت تتلقاها في طفولتِهِ، في غـُرفةٍ منزويةٍ ولا يعودُ يـُطلُّ عليها تشامخاً وتكبُّراً وقد جفت المحبة من قلبه وتصدَّعت مشاعره!
قبلَ أكثر من ألفين وستمائة عام ومن بلادِ آشور، أوصى حكيمٌ يُدعى طوبيـت وَلَده قائلاً:" إذا مُـتُّ فادفن جسدي دفناً حسناً، وأكرم والِدَتـَكَ ولا تتركها جميع أيام حياتـِها، واعمل ما يـَطيب لها، ولا تـُحزن نـَفسَها بأيِّ أمرٍ كان. أُذكر يا بنيَّ، المخاطر والمشقات التي عانتها من أجلك وأنت في أحشائِها، ومتى استوفت هي أيضاً زمانَ حياتها، فادفنها إلى جانبي في القبرِ نفسه".
وفي الختام ومع التهنئة العَطِرَة بمناسبة عيد الأم فإننا ندعو بأملٍ الأبناءَ للتحرك دونَ إبطاءٍ لأخذ بركة أمهاتهم وإكرامِهم ونيل رضاهم وتحريرهم من السأم وبعث التفاؤل في وجوهِهم، فبهذا يَعْظُمُ العِيد وتزدادُ إشراقته. ولا يغيب عن الخاطر أن نترحمَّ على جميع الأمَّهات الَّلاتِي شاءت الإرادة الربانية ان ينتقِلن من هذا العالم إلى عالم الخُلود بعد أن أدَّيْنَ رسالتهُنَّ بأمانة وتفانٍ.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
اطلالة على كتاب " جدليَّة الأنا والآخر في الخطاب الشعري في المُفضَّليات"
بقلم حنّا ميخائيل سَلامة نُعمان
لا شكَّ أنَّ أقلاماً كثيرةً جَرَت فكتبت عن مؤلفاتٍ مِن خزائن مكتبتنا العربية العريقة، وليس مَن يُنكر أنها وُفِّقَت إلى حدٍ كبيرٍ في الأغراض التي ابتغاها أصحاب تلك الأقلام فأخَذَتْ مؤلفاتهم مواقعها على أرفُف المكتبات وصارت تحت نظر المُهتمين والباحثين. ولأن الخزائن المُشار اليها لا تزال غنية بمؤلفات لم تُسلط عليها الأضواء مِن بعد، نجدُ الباحثة القديرة الأكاديمية زينة محي الدِّين غنيم تَسْتَلُّ مِن ذخائر تلكَ الخزائن "عِشقاً منها للأدب القديم وأهمية معالجته من منظور حديث" كتاباً قيِّماً اسمُه" المُفضَّليات" لا لِتُضيءَ عليه إضاءَة عابرة فحسب، فهذا لو شاءَت لكانَ بالأمر اليَسير عليها، لكن لعَقدها العَزم أن تخوض فيه مِن خلال مُحَاجَة منطقية ومنهج بحث تحليلي يسبر أبعاده الفلسفية والنفسية والاجتماعية وبطريقة لم يجرِ تناولها مِن قبل، ويتبدى هذا جليَّاً مِن مُجرَّد النظر للعنوان الذي اختارته لكِتابها " جدلية الأنا والآخر في الخطاب الشعري في المُفضَّليات؛ تجليات البقاء والفناء في الخطاب الشعري لشعراء المُفضليات في ضَوء علاقة الأنا بالآخر".
وقد ضمَّ كتاب المُفضَّليات في نسخته الأصلية نحو مئة وثمانٍ وعشرينَ قصيدة شكلت مِرآةً لحياة العرب وللظروف المحيطة بهم وواقع أحوالهم، واعتُبِرَت مِن روائع مخزونِ الشِّعر وأجمله في العصر الإسلامي وما سَلَف مِن عُصورٍ، وكان اختارها " عَلاَّمَة وراوية الأخبار والآداب وأيام العَرَب" المُفضَّل بن محمد بن يَعلى الضَّبي الكوفيّ المتوفى سنة 747م. وغايته من ذلك تلبية أمرِ أبي جعفر المنصور في تعليم ابنه محمد المهدي في سِنٍ مُبكِّرٍ من عُمُره صَقلاً لِلسَانهِ وتوسيعاً لمداركه.
تقول الباحثة في معرض تقديمها لكتابها الذي برز للنور حديثاً:" اخترتُ أن أتناول المُفضَّليات بالدراسة والتحليل من منظور نفسي واجتماعي وارتأيت أن أسلط الضوء على الحوار الدائر بين الأنا والآخر في الخطاب الشعري فيها، لِما لهذه الثنائية من أهمية في الكشف عن التداعيات النفسية للشاعر وكشف الستار عن نظرته للوجود من خلال تَجْلية علاقة أنَاهُ بالآخر على اختلافه وتعدده". وتُضيف: " هذه الثنائية تُفضي إلى فهم علاقة الشاعر ببيئته ومجتمعه على اعتبار أن الآخر هو كل ما يقع خارج الأنا..".
وقد ضمَّ الكتاب بين دفتيه نحو مئتين وستين صفحة غطَّت موضوعات حملت عناوينَ منها "علاقة الأنا والآخر في حقل العلوم الإنسانية من مناظير نفسية وفلسفية واجتماعية"، " موقف الأنا من الآخر، الأنا بين الذات والهوية، الأنا والآخر في الخطاب الشعري في كتاب المُفضّليات". وتجد في الكتاب مباحثَ متنوعة تتحدث عما هو خارج الذات وكل ما يتصل بالآخر، فتُحلِّل من خلال رؤية فلسفية وأدبية ناقِدة ومن خلال نماذج شِعرية مكنون نفس الشعراء وما يقلقهم وانسحاب هذا على أشعارهم حين يتحدثون عن مُحيطهم البيئي والدوارس والأطلال وذكرياتهم فيها. وتعكس تلك القصائد حياة البداوة والترحال والخيل والإبل وسائر الحيوانات المتوفرة في المكان. كما تجيء على مواقف الشجاعة والفروسية ومجمل المآثر دون تناسٍ للمَثالب إن توفرت في قصائد مُعيَّنة. وتجدُ في الوقت نفسه مباحثَ عن علاقة الأنا وأصحاب السُّلطة أو مُمَن يُمثلهم، والنهج المتَّبع في مخاطبتهم، والأنا والقبيلة، وعلاقة القبائل مع بعضها البعض "والفخر الجماعي الممزوج بالحماسة تجسيداً للانتماء للقبيلة وتماهي" الأنا" في ال" نحن" والذوب في بوتقتها "على حدِّ وصف الباحثة.
إن هذه الإطلالة على كتاب " جدلية الأنا والآخر في الخطاب الشعري في المُفضَّليات" لا تُغني عن قراءَته للإفادة من مَضامينه ولتوسيع آفاق المعرفة على ضَوء غاية المؤلِّفة الفاضلة في تقديم الشيء الجديد عن الكتاب. وفي الحقيقة أنني تمعنت ملياً في موضوعات الكتاب والقصائد الواردة فيه فوجدته ثَرياً بمحتوياته ورأيتُ ألا يكون تحت نظر عُشاق الأدب العربي القديم فحسب، بل أن يكون محطَّ نظر واهتمام الباحثين في عِلم النفس وعِلم الاجتماع. كذلك الشريحة العاملة في مراكز الحِوار ومنتدياتها بشتى المُسمَّيات التي تسعى في برامجها للانطلاق من حبِّ الذات والأنا لتقريب الآخر والانفتاح عليه وعلى ثقافات العالم. فالباحثة تُركِّز على أنه "لا يمكن أنَّ هناكَ "أنا" دون وجودٍ للآخر المختلف؛ "الأنا" ذات وجود اجتماعي أكثر من كونها ذات وجود فردي؛ لا يدرك الإنسان هويته إلا عند اصطدامه بثقافات أخرى".
وحريٌ الإشارة، إلى أن الأستاذ الدكتور حمدي منصور أستاذ الأدب القديم ونقده في الجامعة الأردنية، كان قدَّم للكتاب وأشارَ إلى أن" الباحثة استطاعت من خلال روائع شِعرنا القديم أن تستخرج لنا من أشعار المفضليات وقصائدها دُرراً نفيسة تكشف لنا عن علاقة الأنا بالآخر..." كما وأشاد حفظه الله " بِلُغَة الكتاب العالية الراقية وأسلوبها العلمي الرصين ورؤيتها الدقيقة الكاشفة ".
بقي أن نُزجي تهنئة للباحثة الأكاديمية الموهوبة زينة غنيم على حُسن اختيارها لكتاب المفضليات ولجهودها الفكرية وسهرها في الدرس والبحث وتقليب ما يناهز مئة وعشرين مرجعاً ومعجماً ليكون كتابها " جدلية الأنا والآخر في الخطاب الشعري في المُفضَّليات" متكاملاً متميزاً يُغني المكتبة العربية ويكون عوناً للدارسِين والمهتمين.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.