قراءةٌ في المشهد الثقافي لاسْتِسْقاءِ العِبَرِ ولإعادةِ النَّظر في جُملةِ مَسائل!
حنا ميخائيل سلامة نعمان
غَدَت الأسباب التي أوجبت وزارة الثقافة سحبَ "رواية ميرا" التي عُرِضَت للبيع ضمن مشروعها المُسَمَّى "مكتبة الأسْرة للجميع" واضحةً جَليّةً. وكانت الرواية قد طبعتها الوزارة -هذه المَرَّة- ونشرتها لتباع في المراكز المخصصة مع مؤلَّفات أخرى بسعرٍ زهيدٍ تشجيعاً للقراءة. ولستُ بصدد الخوض في هذه المسألة تحديداً، غيرَ أنّي أعود بالذاكرة لسنوات مَضت عندما طبعت وزارة الثقافة ووزعت مجاناً رواية "عندما تشيخ الذئاب" لمؤلفها المرحوم جمال ناجي، والموصوفة من الوزارة أنها "ثمرة انتاج إبداعي". هذا الإنتاج يكون بالعادة مدفوع الثمن كونه يندرج تحت مسمى "نِتاج التفرغ الإبداعي" الذي يُمنح فيه المؤلِّف الذي يجري اختياره خمسة عشر ألف دينار شريطة أن يتفرغ من أي عمل يدر عليه دخلاً لمدة عام ليؤَلِّف كتابه! وحين اطلاعي على الرواية آنذاك إذا بها تتضمن فَقرات كثيرة تدخل بوضوحٍ تحت مُسمى -مُعِيبة- بما لا يقبل رَبّ عائلة عاقل أن تكون الرواية تحت أنظار أهل بيته! وفيها أيضاً صفحات لتهكمات مُبطنة تَمسُ مرحلة من تاريخ بلدنا ورموز تلك المرحلة! فانتقدت حينها كيف يصار لطباعتها ودعمها ووضعها بالمجان لمن يرغب؟ وتساءلت هل هذا مستوى انتاجنا المسمى "الإبداعي" وهل يستحق عاماً كاملاً من التَّفرغ! وأوصلتُ صوتي وقتها لمن يعنيهم الأمر داخل الوزارة، ثم اضطررت إزاء عدم إيفاء الوعد بإجراء اللازم على تمرير رسالتين لقامَتين نافذتين مع نُسختين من الرواية مؤشِّراً على الصفحات ذات العلاقة لبرهنة صحة كلامي. وقد تم بالفعل توقيف توزيع الرواية بأوامر منهما مع تعليماتٍ بسحبها حيثما توفرت. لكنَّ الأمر المستغرب أنه وتحديداً في شهر 12/ 2009 تمَّ دعمٌ سَخي من الوزارة لإعادة طباعة نسخة ثانية منها مُجدداً بذريعة "نفاد الكمية ولترشحها لجائزة خارجية" كما أُعلِن! والعجب العُجاب كيف تنفد الكمية طالما سُحبت حيثما وُزِّعت وتمَّ تخزينها في مستودع الوزارة أو غيره! ومن باب العلم أن المسلسل الذي أُنْتِج خارج الأردن بعد سنوات عن الرواية تم استبعاد العبارات والنصوص المشار اليها، ولم يأتِ على مضمون صفحات بكاملها كعادة انتاج الروايات حيث يتم معالجتها درامياً فتُعدَّل مضموناً وشكلاً!
إن طرح الموضوع أعلاه الآن يجيء لاستسقاء العِبَر من جانب، ومن جانبٍ آخر لإعادة النَّظر وتغيير النهج في مسائل عِدَّة تجري على ضَوء ما ورد ذِكره، وأخصُ في أهمية إعادة دراسة الكُتب التي طُبعت تحت عنوان "التفرغ الإبداعي" وهل كانت جميعها لتثقيف العقول وفيها ثروة مَعرِفيَّة حقيقية لِتَستحقّ تلك المخصصات المُجزيَة التي دُفِعَت لمؤلفيها ولطباعتها. علماً أنَّ مِن تلك المؤلفات ما كان يُمكن إنجازه بشهر واحد أو أقل دون تفرغٍ من خلال الكفاءات المتوفرة في الجامعات ومؤسساتنا الثقافية المختلفة وأيضاً مِن الموهوبين من رجالاتنا في الريف والبادية والحاضرة.
وأُضيفُ بالمناسبة ملاحظات أرجو أن تتسع لها الصدور، وقد كنتُ كتبتُ عنها في مقالات سابقة وأرى في بَسْطِها الآن ما يُسهم في دفع عجلة الثقافة وأيضاً ما يُخفِّف الضغط على الميزانية الحكومية المخصصة للثقافة ومشروعاتها:
إنَّ التصريح بأن مئات آلاف الكتب قد جرى توزيعها بالمجان خلال حملات مكتبة الأسرة وأنشطة مماثلة، وأن أعداداً أيضاً بيعت بأسعار رمزية، لا يُعدُّ هذا كله المعيار الحقيقي للهدف المنشود من تعميم الثقافة والارتقاء بها وتوسيع المدارك ونشر الوعي. ومع الإقرار أن هناك مِن المُهتمِّين مَن يذهب ليقتني منها بغرض القراءة والمعرفة، غيرَ أنَّ نسبةً مِن الكتب ما يأخذ طريقه كما جرى في حالات سابقة ليُباع على دُفعاتٍ في بعض المعارض والبازارات والأكشاك وعلى الأرصفة بأضعاف أضعاف القيمة، بعد قَصِّ أو طمس موقع الختم المُثَبَّت على كل كتاب ومُفادُه "إهداء وزارة الثقافة" أو مسح سعر الكتاب. مع الأخذ بعين الاعتبار توافد أشخاص يعملون لصالح معارض ومكتبات وبازارات وأكشاك وباعة أرصفة، حيث يستغلون فترات المعارض لشراء كميات يُركِّزون فيها على العناوين "المهِّمة" دون غيرها لإعادة بيعها بأساليب ماهرة!
ومع قيام الوزارة بإهداء كمياتِ كُتب لمكتبات المراكز التعليمة والثقافية والأندية وغيرها، لكن أليسَ من الضروري التحقق في مصير تلك الكُتُب. فهناك مكتبات قليلة منها تقوم بعرضها فِعلاً، لكن هناك مكتبات مُوَصدة الأبواب باستمرار، وإن فٌتِحت تَبيَّن أن الكتب مُكدّسة على الأرض تفعل الرطوبة فيها فعلها، وقد لا تجد في مكتبات أخرى أيّ أثرٍ للكُتب المُهداة!
ويبرز سؤالٌ في الخاطر: هل الارتقاء بالثقافة يكون بالاستمرار في بعض المشاريع دون تقييم جديد شفاف من ذوي الخبرة والاختصاص لكشف مواقع الخلل وسد الثغرات وخاصة ان تلك المشاريع تموَّل من الميزانية؟ وهل أبرزت المنتجات الثقافية التي طُبعت بمشروع المدن الثقافية وعلى مدى أعوام مَضت معلومات كافية شاملة تتسم بالدقة وتصلُح لتكون مراجعَ مستقبلاً عن تاريخ تلك المدن وآثارها، وعاداتها، ورجالاتها، وانجازاتها؟ وهل تمَّ تدقيق مخطوطات الكتب المختصة بالتاريخِ والتوثيق قُبيل الطباعة من أساتذة مختصين في جامعاتنا ذلك إن غضَّ البصر وعدم إدراج حِقب ومراحل تاريخية فيها وترجيح حِقب زمنية على حِقب لا يشكل أمانة بحق التاريخ ولا يجعل تلك الكُتب مراجع يُعتمد عليها للساعين نحو البحث؟ وهل وُظِّفَت على النحو اللازم أنشطة وبرامج تلك المُدن لتقريب الناس إلى بعضهم البعض وإذابة الفوارق بنشر الوعي وفتح آفاق التلاقي الحقيقي بين شرائحهم المجتمعية وعلى مستوى الوطن كله؟ وهل كانت المؤلفات الصادرة عن تلك المدن من نِتاج أهلها فقط أمْ تمَّ إدماج كُتب طُبِعَت لأشخاص من مدن أخرى بهدف إنفاق كامل المخصصات المحددة؟
وهناك سؤال آخر: أليسَ من المنطقي عند طباعة مؤلفات سواء على نفقة الوزارة أمْ من خلال المؤسسات الثقافية الكثيرة المشتغلة بالثقافة والمدعومة سنوياً من ميزانية الحكومة أن تُقدِّم تلك المؤلفات خدمة مَعرفية جديدة أو خبرة حياتية أو للتوعية بقضايا المجتمع وما يلزم من حلول خدمةً للوطن وللمواطنين؟ ويبرز سؤالٌ في السِّياق: أنرتقي بالثقافة حين تُطبَع في بعض مؤسساتنا الثقافية المتلقية الدعم المالي من الخزينة ودونَ تدقيق شامل مؤلفات تكونُ موضوعاتها مُستلّبة من مخزون الحواسيب ونتاجِ آخرين تعبوا عليها وسهروا فيجري عنونتها بعناوين جديدة، بل ويُصبح مَن جمعها عُضواً في تلك المؤسسات؟ ثمَّ أنرتقي بالثقافة حين تُطبَع بدعمٍ بعض المؤلفات ومنها على سبيل المثال في الشِّعر او النثر فتجدها رصف كلامٍ بكلام مع ضعف في مبَناها وركاكة في معناها. ثمَّ يُصار لتعظيم مؤلِّفيها وغيرهم مِمن هُم على النهج نفسه وترويج كتبهم وتكريمهم بما ينعكس سلباً عليهم إذ يتوقف واحدهم عن القراءة والبحث معتبراً نفسه مع المديح قد وصل لقامة شوقي او العقاد أو جبران وغيرهم؟
ثمة ملاحظة، تتعلق بورشات العمل والندوات تحت المسميات الثقافية المتعددة فقد لوحظ من متابعة لسنوات أن الموضوعات التي تُطرح في -حالات كثيرة- كذلك أوراق العمل المُقدَّمة فيها تكرار، بل واجترار عن موضوعات سابقة وأوراق عمل سابقة مِنها للأشخاص دون تقديم ما هو جديد. علماً أن عقد تلك الأنشطة يُكلف مبالغ لا يُستهان بها مع ما يتم دفعه للمحاضرين.
ويبقى القول، إنَّ طرحَ الملاحظات أعلاه لا يعني نُكران الجهود المبذولة التي تقوم بها الوزارة وكوادرها مع تشعُّب مَهامهم ومسؤولياتهم، إنما يعني فتح العيون على ما تضمَّنته مِن سلبيات ومآخذ لاجتنابها أو تصويبها خدمةً للثقافة وللإرتقاء بها إلى ما نَصْبو إليه جميعاً في بلدنا الغالي.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
آفة المخدرات بأصنافها مصدر قَلق للشعوب كلها!
حنا ميخائيل سلامة نعمان
كلَّما طالعتنا الصُّحف بتمكن الجهات المَعنيَّة من إحباط عمليات تهريب مُخدِّرات أو إلقاء القبض على تُجارِها ومُروِّجيِها سَرَّنا ذلك. ومَنبع السرور أنَّ تحصين أبناء المجتمع من هذه الآفة التي باتت مصدر قلقٍ ليس على المستوى المحلي فحسب، بل لدى الشعوب كلِّها مسألة بالغة الأهمية. ويعود الانتشار السريع لتجارة المخدرات في العالَم للأساليب البالغة التنظيم ولِتفنُّن المنتجين والمصنِّعِين والمروِّجين ومن يدعمهم، فهدفهم جميعاً تحقيق مكاسب مادية فلَكيَّة وإن كانت على أكتاف الفتك بصحة الناس وتدمير حاضرهم ومستقبلهم بالإضافة لِنسف الثوابت الاجتماعية والأخلاقية وغير ذلك.
إن ما يُنشر من أنباء حول الجهود الموصولة المخلصة في إحباط عملياتِ تهريبٍ تجري بأساليب لا تخطر على البال، وبكميات كبيرة يتمُّ الإعلان عنها بشفافية، يدل بوضوح على وجود سُوقٍ وطلبات متزايدة مِن مُتعاطيِّ هذه المواد. ويؤكِّد في حالاتٍ أنَّ ليس كلّ ما يُمْسَك يكون مُتَّجِهاً لِدول أخرى. وعليه مِن الحقِّ الاعتراف أننا أمام قضية كبيرة خطيرة يجدر تسليط الضَّوء عليها بشكل واسع وعدم تبَسيطِها، بل استنفار الطاقات الرسمية ومضاعفة الجهود لمنع تفشِّيها أكثر والقضاء عليها بالتعاون مع آلاف مؤسسات المجتمع المدني من ثقافية وتعليمية واجتماعية ورياضية وغيرها، هذه التي يفترض بما تملكه من قُدُرات بشرية ومادية أن لا تحصِر أنشطتها وتؤطِّرها ضمن مُسمياتها فقط، إنما يُفترض ومن حِسِّها الوطني ومِن فائضِ الدعم الذي يتلقاه بعضها مِن ميزانية الحكومة أن تُسهِم بحلّ القضايا والمشكلات والتحديات التي تقع في المجتمع.
ولسنا بصدَدِ عرض الأضرار الصحية البالغة الخطورة التي تلحُق بالمتعاطين فالطِّب يؤكِّد تأثير المخدِّرات على أعضاء الجِّسم وأجهزَتِه كلّها، يواكب هذا اضطرابات نفسية وسُلوكية تقضي على حياة المتعاطين وربما تقودهم للقيام بممارسات عدوانية وغيرها. يواكب هذا دمار بيوت أسَرِهِم وذويهم وخسارة المجتمع لِقُدُرات كان يُمكن لها أن تُسهم في البناء والتطوير لا أن تُمْسَخ صُورتها في المجتمع!
وحَريٌ مع عدم نُكران الجهود المخلصة المبذولة، فتح الأعين على نحوٍ أوسعَ كيلا تدخل البلاد بطرق مُلتوية، البذور المستعملة لزراعة بعض أنواع نبات الحشيش، مع مُضاعفة الجهود مِن قِبَل الكوادر الميدانية في وزارة الزراعة وغيرها لِلكشف في حال توفُّر مزارع تُنتج محصول الحشيش أو تُصَنِّعُه من خلال عمالة وافدة تحديداً لإيثار هذه العمالة الصمت على ما تقوم به مِن أعمال حفاظاً على معيشتِها!
وفي السِّياق، لا بُد من قرع جرس الخطر حول اندفاع وَنَهَمِ فئات شبابية مِن الجِنْسَيَن، وانقيادها الدائم لِنوادٍ ومَقاهٍ ومطاعمَ مُحدَّدة.. وكأن تُمباك وَمُعسِّل نراجيلها تمزج بصنوفٍ بما يخدِّر أو يُعطي نشوة بما يتطلبُ مضاعفة إجراءات الرقابة على عمل ومرتاديّ تلك المواقع. وليس يغيب عن الذهن، أن هناك فئات من أعمار مختلفة تُقدِم وقد اعتادت على شراء مواد للإستنشاق مِثل: سبيرتو/ آجو /بنزين/ غاز القدَّاحات وغير ذلك وجميعها يُباع بثمن زهيد في سائر المحال، لتفعل فِعلها بالدماغ فَتُسَطِّل متعاطيها أو تدفع لميول عدوانية وتصرفات غير محمودة. وهنا يبرز دور الأهل في مسؤولية مراقبة سلوكيات أبنائهم الذين ولغياب خبرتهم في الحياة وجهلهم بمضاعفات تصرفاتهم يقعون مع الأيام فرائس لآفة المخدرات بأصنافها الفتاكة. كما أن عيون المعلمين في المدارس ينبغي أن تكون مفتوحة في حال ملاحظة أية ظواهر سلوكية أو جسمية او نفسية على الطلبة تكون ناجمة عن تعاطي ما تم ذِكره ومتابعة الأمر مع الأهل ومع من يعنيهم الأمر. يجيء هذا لوقف أي تدهور وتمادٍ في الحالات ولتأهيل المدمنين ومن انغمس بهذه الآفة مبكراً في المراكزَ المتخصصة.
ومع الثقة بآلية عمل مستودعات المستشفيات وصيدلياتها وكفاءة العاملين فيها، لكن لا يضيرُ أن تكونَ تلكَ التي تشهد ازدحام عملٍ في ساعات النهار والليل تحت مزيدٍ مِن المراقبة، لئلاَّ تقع حالات تسريب حُبوب وغيرها مِما يقتضيه العمل الطبي العادي أو الجراحي للتخدير والتنويم مِن قِبَل أيٍ كان إلى خارجها. ولعلَّ أهمية أيضاً تكمُن في مزيدٍ من فتح العيون على صيدليات قريبة من تجمعات طلابية من جامعات وكليات وغيرها في مناطق مختلفة كيلا تباع بطُرقٍ معيَّنة أو تحت الإكراه حبوب تخدير وتنويم وهلوسة بالرغم من عدم جواز بيعها إلا مُقابل وصفات طبية رسمية.
وختاماً إنها مسؤوليتنا جميعاً أن نُعِدَّ الشخصية السَّوية المتكاملة الناضجة الواعية والقادرة على أن تكون قوةً مُنتجة فاعلة في المجتمع تتمكن بطاقتها الجسدية والنفسية غير المضطربة من مجابهة متطلبات الحاضر وآمال المستقبل!
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.