أيُّ حالٍ حالُهم!؟
"لا شيءَ في الجو وآفاقِه أصْعدُ مِن دعوة مَظلوم"
بقلم حنا ميخائيل سلامة
أيُّ حالٍ حالُ مَن فقدوا المُعيلَ والسَّندَ والعَون في غَزَّةَ، وباتت الدموع لا تفارق مَحاجر عيونهم، والأسى يشتعلُ في حنايا صدورهم!؟
أيُّ حالٍ حالُ اليتامى والأرامل والثكالى والمكلومين الذين باتوا يَعجنون خبزهم بالدموع.. تلكَ الدموع السَّاخنة المُنسكبة من مآقيهم إلى خدودهم إلى ثغورهم!؟
أيُّ حالٍ حالُ من هبطت على بيوتهم الآمنة وفي محيطها صواريخ الفَتكِ وأدوات الحَرب العدوانية الجائرة فاصطادت شظاياها أجزاءَ من أجسامِهم وبَتَرتها أو عطَّلت غيرها لتلازمهم العاهات الجسدية وتُقْعِدهم في مُعاناةٍ واوجاع وتنهدات ما امتدَّ بهم العمر!؟
أيُّ حالٍ حالُ مَن هُجِّروا عُنوةً أو شُرِّدوا من جرَّاء التضييق الخانق، أو فَرُّوا رغماً عنهم للنجاة بأنفسهم من نارِ الحرب وشَرِّها، فباتت السماء ألحِفةً لهم يتدثرون بها، والأرض العارية فُرُشاً لهم. فأخذوا يستدفئون بتنهداتهم علَّها تُبْعدِ عن أبدانهم المرتجفة شيئاً مِن هبوب العواصف وبَرْد الشتاء القارس الذي يُداهِم بِشِدَّتِه أبدانهم فيكاد يخترقها!؟
أيُّ حالٍ حالُ مَن ذَهبت، بل إمَّحَت عن خريطة المكان، مَعالِم دُوُرِهِم وبيوتهم التي كانت تروي مسيرة العُمُر وتأويهم نابضةً بالألفة والوئام، وكذا حالُ باحاتها الشاهِدة على ذكرياتٍ حُلوة ولقاءات حَمِيمية جَمَعت أبناء المذاهب والطوائف معاً ورفرفَ في اجوائها التناغم والانسجام!؟
أيُّ حالٍ حالُ مَن تلاشت، بل سُوِّيَت بالأرض إثرَ هَدمِها بفعل الحَرب العدوانية الشَّرِسة، أبواب أرزاقهم وتبدَّدت المَحَال والمصالح التي كانوا يتعيَّشون مِن دَخْلِها ويقومون بِأَوَدِ عوائلهم منها!؟
أيُّ حالٍ حالُ مَن يَطالُهم العُنف وتمتد إليهم أيدي الغَدر والكيد -وقد امتدَّت بالفِعل- لِتُسكِت أصوات الحق التي بها يَصدَحون كأعلاميين وصحافيين وتغييب ما يَرَونَه بأمِّ العَين فيبثُّونَه!؟
أيُّ حالٍ حالُ الشيبِ والشُّبان والأطفال مِمَن رغماً عن إرادتهم، ينتظرون مُرتقبينَ في صُفوفٍ طويلة وفي أيديهم القُدور والآنية والعبوات علَّهم ينالون يَسِيراً مِن الطعام، أو شيئاً مِن الماء لسدِّ رَمَقِهم وإرواء عَطَشِهم. وهُم لم يَقبلوا مِن قَبل مِنَّةً مِن أحدٍ أو شَفَقةً مِن غيرهِ لتبقى عِزّة نفسهم مَصونة وكرامتهم محفوظة!؟
أيُّ حالٍ سيؤول اليه حال الأطفال الأبرياء حين يشتد عَضُدُهم ويكبٌرون. وَهُم الذين التصقت بعيونهم مشاهد الموت والدمار، واختُزِنَ في عقولهم هدير الطائرات وأصوات آلات الحرب، ولازمَ أسماعهم دويِّ المتفجرات يُرافقهُ عَويلٌ وآهات مَن فقدوا الأمّ والأب والأخت، والأخ والجار!؟
مَن يَرثي، ومَن يبكي، ومَن تُراه سيذكُرُ مِن بعد مَن انهارت فوق رؤوسهم على حين غَرَّةٍ، البيوت التي كانت تأويهم فأودت بأرواحهم البريئة وارواح عوائلهم بالجُّملة فما عاد لهم وجود سوى مِن سجلاتٍ النفوس وتعدادها!
مَن يَرثي، ومَن يبكي، ومَن تُراه سيذكُرُ مِن بعدُ الضحايا الأبرياء الأصفياء الذين سقطوا في المساجد والكنائس والمشافي ودور العَجَزة ومراكز إيواء الأيتام ومؤسسات التعليم بمراحله المختلفة!؟
وتزدحِم الأسئلة على اللِسان: فأيُّ حالٍ حالُكِ غزَّة!؟
وأيُّ حالٍ حالُ عَالَمِنا الذي غُيِّبَت فيه الموازين الإنسانية والأخلاقية والقِيَمِيَة؟ عالمنا الذي باتت تَستهويه حِياكة الكلام ونَسْج تعابير التعاطف لِمَرَّةٍ والاستنكار والإدانة والشجب لِمراتٍ، وليس مِن أفعال تتمثلُ بِهَبَّة عالمية فورية شُجاعة لوقف شلال دم الأبرياء ولِرَدِّ سهام العدو الغاشم التي طال أمَدُ تطايرها وحيثما أراد أعداء الحياة وخصوم السلام!
وصدقَ أمير الشعراء أحمد شوقي بقولهِ: "والحربُ يَبعثها القويّ تجبراً وينوءُ تحت بلائها الضعفاءُ"
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
على يقينٍ مِن قُدرَتِكم حلَّ أزمة السَّير في عمَّان فَهَلاَّ فَعَلْتُم!
بقلم: حنا ميخائيل سلامة نعمان
لا ننفكُ نسمع مرةً، ونقرأ لِمرَّاتٍ أنَّ أزمة السير الخانقة التي تشهدها تحديداً العاصمة عمَّان تعود في أسبابها لازدياد أعداد المركبات، أو لتزامُن توجّه الموظفين لأماكن عملهم والطلبة إلى جامعاتهم ومدارسهم أو بسبب وجود مركبات المغتربين في فُصولٍ مُعيَّنة، ويُلقى باللوم أحياناً على الظروف الجوِّية التي سبَّبت الأزمة! إنَّ هذا كلّه وغير ذلك من تبريرات نسمعها ونقرأ عنها دونما انقطاع لن يُعالِج الأزمة الخانقة التي باتت تُعطِّل مصالح الناس وتؤخِّرهم عن التزاماتهم المختلفة المُلِحَّة ومنها الاستشفائية، كذلك تُعطِّلهم عن الوصول لأماكن عملهم في شتى المواقع أو الالتحاق بمقاعدهم الدراسية وحين إيابهم منها. والمَشهد المؤسِف المُتكرِّر رؤيته، أن تجدَ سيارات الإسعاف أو طوارئ الكهرباء وما ماثَلها مَحشورة مُحاصرةً في وسط الأزمة بالرغم من استغاثة زماميرها لفتح مَسْرَبٍ لمهماتها الانقاذية العاجلة! ويغفَل مع الأسف الكثير مِمَن يعنيهم الأمر أن الأزمة تستنزِف أموال المواطن الذي يكون خصص مبلغاً محدَّداً أجرةً لتنقلاته وتنقلات أبنائه فإذا بها تتضاعف لِتُجْهِزَ على راتبه. والحال نفسهُ على مالِكيّ السيارات الخاصة مِن أصحاب الدخل المحدود والمتوسط، وما أكثرهم، حيث تَضَاعف مَصروف وقود مركباتهم بسبب مُكوثِهم مُسَمَّرين فيها أضعاف الوقت المُعتاد، والكل يعلم أنَّ مُحركاتها لا تعمل على الهواء مجاناً!
إنَّ أعْذارَ مَن يعنيهم الأمر غير شافية، وأراها تُخفي الأسباب الرئيسية الكامنة وراء أزمة السير والاختناقات المرورية. فالمُلاحَظ أنَّ مَن خَطَّط ودَرَس وأمَرَ بتنفيذ بعض مشاريع الجسور والأنفاق وصولاً لمشروع الباص السَّريع لم يضع على الأرجح بالحِسْبان أنَّ الأزمات المرورية سَتُرحَّل مِن مواقعَ وَسَتَجْمعها نفسها وتُعَقِّد انسيابها في مواقع أخرى. كما أن َّالترويج الذي جرى لها بأنها ستختصر المسافات وتوفر الوقت قد ثبتَ عدم صوابهِ على نحوٍ ما مع الأيام، بدليل ما يقضيه المواطن من وقتٍ طويلٍ على شوارعَ كثيرة وفي مُحيط الدَّواوير وفي داخل الأنفاق وخارجها وعلى الجسور فيذهب صبره وتحترق أعصابه مِن الانتظار!
وإذا ما بحثتَ عن أسباب أخرى وجدتَ على جوانب شوارع رئيسية أو فرعية مُهمة قيام أبراج ومنشآت وأبنية بارتفاع عشرة طوابق أو أقل من ذلك، ومجمعات تجارية ضخمة ومعارض سيارات أو مُعرَّشات لبيع الخضار والفاكهة، أو مُعَرَّشات لبيع الأشجار والنباتات. ومِن هذه ما يكون مُلاصِقاً بالتمام لمنعطفات الشوارع وقرب الدَّواوير كما نرى هذا الأمر الذي لبقالات ومحال سوبرماركت احتلت منعطفات شوارع فعطلت الانسياب المروري. فتتساءَل كيف جرى منح ترخيص ذلك كله دونَ إجراء الدراسات الشَّفافة المُتأنية من لجان واسعة الخِبرات مِن مختلف الدوائر المعنية لوضع الشوارع ولِما سيؤول عليه حالها، وعن مدى قدرتها على استيعاب حركة المركبات المتدفقة بشكل طبيعي واستشراف انسيابها المروري؟ وكيف لم يُؤخَذ بالاعتبار موضوع مركبات الزبائن الوافدين اليها أو المُراجعين كذلكَ آليات وشاحنات نقل البضائع بأحجامها الكبيرة والمتوسطة التي ستتردد عليها دونما انقطاع للتزويد فتضيق الشوارع وتبدأ الاختناقات المرورية وما يتبع هذا مِن حوادث. ومِن الملاحظ أن كراجات أغلب تلك المنشآت لا يتم فتحها أو تستثمر لأمورٍ مختلفة فتصبح الشوارع مواقف لموظفيها ومرتاديها، فتنحسر مساحة الشوارع ويتعطل الانسياب المروري.
إنَّ استغلال مسارب حافلات "الباص السريع" وشوارعه لغير حافلاته فحسب بات أمراً مُلحا ًوعقلانيا،ً ولا يَضيرُ ذلكَ طالما المصلحة العامة تقتضي إعادة الحسابات في مشروعاتٍ جَرَت. فمسارب حافلات الباص السريع الفسيحة غير مطروقة على النحو الذي نراه جميعاً في سائر مناطق مروره، حيث نرى وبعد شهورٍ عديدة مِن تشغيله في كل بضعة دقائق إحدى حافلاته يستقلها بعض الأشخاص.. فيما المركبات على الشوارع المُحاذية مُكدَّسة متلاصقة والاختناقات المرورية على أَشُدِّها والناس فيها تنتظرُ وتنتظر، بل في حالة انفعالٍ لِما عليها مِن التزامات وارتباطات!
في جانبٍ آخر ثمة ملاحظة، تتعلق بِمُحْتَلِّي الأرصفة بالمعروضات المختلفة أو أصناف من الحواجز، بالإضافة إلى وضع كثيرين لطاولات المقاهي وكراسيّها قُبالة مقاهيهم وعلى كامل أرصِفة معينة. بحيث يضطر المُشاة ومنهم صِغار العُمر ولعدم وجود مواطئ لأقدامهم النزول إلى الشوارع والمَشي بين السيارات وتعريض حياتهم لأخطار لسنا بحاجة لها فسلامة المواطن التي تعنينا جميعاً أولى مِن عوائد تراخيص تُمنح فتستبيح الأرصفة.
وختاماً إنَّ معالجة أزمة السير الخانقة واجتثاث المسبِّبات مسائل لا تحتمل التأجيل أو تشكيل مزيدٍ من اللجان. فكم مِن لجنة شُكِّلت على مدى السنوات الماضية غيرَ أن ثماراً ملموسة على أرض الواقع لم نَلمَسها. ويبقى أن نقول، على يقينٍ نحنُ من قُدرتكم أيُّها المَعنيون إن شِئتُم حلَّ أزمة السَّير في عمَّان بما لديكم مِن خبراتٍ وكفاءات وإرادة لخدمة الناس والتسهيل عليهم.. فهلاَّ فعلتُم!
أَمَا مِن هَبَّة دوليَّةٍ عاجلة لإغاثة المنكوبين مِن جراء الزلزال!
بقلم: حنا ميخائيل سلامة نعمان
ماذا نُسمِّيها أكارثة أم نازِلة، أم نائبة، أم مأساة، بل كانت ذلك كله! كانوا مُستسلمين لسلطان النوم تُداعب الأحلام جفونهم، والآمال تلوح في خواطرهم، غيرَ أن الأَجَلَ أقبلَ على حين غِرَّةٍ فباغتهم بلحظةٍ ترجرجت الأرض فيها وَزُلزِلَت فافترست تلك الأحلام وذهبت بتلك الآمال!
فاضت دموعنا ولا تزالُ مِن هَول ما وقع مِن جرَّاء ذلك الزلزال المأساوي المُدمِّر الذي ضرب مُباغتةً ودونَ أن يَخطر على بال أحد جنوب شرق تركيا، وامتدت ارتداداته الخطيرة العنيفة والمأساوية إلى شمال وغرب سورية، مُخلِّفاً عشرات آلاف الضحايا تحت رُكام المباني التي انهارت على قاطنيها الآمِنين الأبرياء، مع أضْعَاف ذلك مِمَن أصيبوا إصابات جسدية بالغة الخطورة ، وأضْعَاف أضْعَاف تلك الأعداد مِمَن باتوا في العَراء يواجهون لَسَعاتِ البَرد القارس والريح الشديدة الهبوب، فترتجف مَفاصلهم من هَول الصَّدمة وتهطل دموعهم غزيرةً وقد غاب عن أنظارهم أفراد عوائلهم أو قَضَوا بكاملهم.. كما ذويهم وجيرانهم ومعارفهم!
مأساةٌ مُرعبة لكارثةٍ طبيعيةٍ مُفْزِعَة تستبكي العيون، حتى لِمَن يُسدِّد نظره عبر شاشات التلفزة فيرى هَوْلها وضخامة ما خلَّفت مِن ضحايا ودمار وخراب فكيف لِمن يعيش مرارتها على أرض الواقع!
فإلى مَن ارتقت أرواحهم إلى العُلى نستمطر رحمة الله عليهم، ولِمن أصيبوا وعلى أَسِرَّة الشفاء يرقدون نرفع الأيدي بالدعاء أن يستعيدوا عافيتهم، ولِمَن فَقَدوا مِن عوائلهم وذويهم أحباءَ وأعزاءَ الصبر مِن لَدُن الله.
بقيَ أن نَستصرخ أصحاب الضمائر الحيَّة في أرجاء عالَمِنا، ومِن حِسِّهم الإنساني أن يَهُبُّوا هبة واحدة عاجِلة دون تواكلٍ، أو حتى إيجاد ذرائعَ بوجود ما يُسمَّى" قانون قيصر" وأية تشريعات جائرة تَتَّسِم بالتَّرَفُّع وغِلْظة القلب والقَسْوَة، تمنعُ وصول الإمدادات والاحتياجات الإنسانية وغير ذلك، أو تُعرقل حركة نقلها، أو تُعيق النهوض والمساهمة بالتخفيف من أعباء الكارثة. فما وقع كان طارئاً ومباغتاً، وليسَ مِن أحدٍ على كوكبنا بِمَنْجاة عن ضَرَبات الطبيعة وكوارِثها "وليس مِن أحدٍ على رأسِه خَيمة" كما يقول المثل!
إنَّ الهبَّة الواحدة المنشودة مِن دول العالم يُراد منها مَدَّ يدِ العَون بسخاء لإغاثة المَنكوبين والمُصابين والمتضرِّرين وَمن يبيتون في العَراء، في ظِلِّ فَصلٍ شتويٍ شديد البرودة. كذلك المساهمة بما منحهم الله مِن خيراتٍ وافرةٍ لإعادة إعمار ما تهدَّم وبعثِ شرايين الحياة مِن جديد في سائر المناطق المنكوبة. آخذينَ العِبْرَة ِمَن الدّول التي تنادت في بداية الكارثة - ومنها الأردن- وبادرت ضِمنَ امكاناتها بإرسال فِرق إنقاذٍ ذات خبرة، وسيَّرت قوافلَ مساعدات ولوازمَ إغاثةٍ في تَحقيقٍ عمليٍ لمعاني الأُخوَّة الإنسانية والتعاطف في المُلِمَّات والفواجع الخارجة عن إرادة بني البشر. فبهذا الحِس الإنساني الأخلاقي المأمول من سائر الدول والجماعات البَشَرية، تَعْظُمُ إنسانية الإنسان، وتتبدى خِصَاله، وتُشِعّ مَحبته، فينال بالتالي ثوابه مِن واهب النِّعَم جلَّت قُدرته.
يقول الشاعر:
"مَن يَفعلِ الخيرَ لا يَعدَم جَوَازِيَهُ.. لا يذهبُ العُرْفُ بين الله والناسِ"
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
قراءةٌ في المشهد الثقافي لاسْتِسْقاءِ العِبَرِ ولإعادةِ النَّظر في جُملةِ مَسائل!
حنا ميخائيل سلامة نعمان
غَدَت الأسباب التي أوجبت وزارة الثقافة سحبَ "رواية ميرا" التي عُرِضَت للبيع ضمن مشروعها المُسَمَّى "مكتبة الأسْرة للجميع" واضحةً جَليّةً. وكانت الرواية قد طبعتها الوزارة -هذه المَرَّة- ونشرتها لتباع في المراكز المخصصة مع مؤلَّفات أخرى بسعرٍ زهيدٍ تشجيعاً للقراءة. ولستُ بصدد الخوض في هذه المسألة تحديداً، غيرَ أنّي أعود بالذاكرة لسنوات مَضت عندما طبعت وزارة الثقافة ووزعت مجاناً رواية "عندما تشيخ الذئاب" لمؤلفها المرحوم جمال ناجي، والموصوفة من الوزارة أنها "ثمرة انتاج إبداعي". هذا الإنتاج يكون بالعادة مدفوع الثمن كونه يندرج تحت مسمى "نِتاج التفرغ الإبداعي" الذي يُمنح فيه المؤلِّف الذي يجري اختياره خمسة عشر ألف دينار شريطة أن يتفرغ من أي عمل يدر عليه دخلاً لمدة عام ليؤَلِّف كتابه! وحين اطلاعي على الرواية آنذاك إذا بها تتضمن فَقرات كثيرة تدخل بوضوحٍ تحت مُسمى -مُعِيبة- بما لا يقبل رَبّ عائلة عاقل أن تكون الرواية تحت أنظار أهل بيته! وفيها أيضاً صفحات لتهكمات مُبطنة تَمسُ مرحلة من تاريخ بلدنا ورموز تلك المرحلة! فانتقدت حينها كيف يصار لطباعتها ودعمها ووضعها بالمجان لمن يرغب؟ وتساءلت هل هذا مستوى انتاجنا المسمى "الإبداعي" وهل يستحق عاماً كاملاً من التَّفرغ! وأوصلتُ صوتي وقتها لمن يعنيهم الأمر داخل الوزارة، ثم اضطررت إزاء عدم إيفاء الوعد بإجراء اللازم على تمرير رسالتين لقامَتين نافذتين مع نُسختين من الرواية مؤشِّراً على الصفحات ذات العلاقة لبرهنة صحة كلامي. وقد تم بالفعل توقيف توزيع الرواية بأوامر منهما مع تعليماتٍ بسحبها حيثما توفرت. لكنَّ الأمر المستغرب أنه وتحديداً في شهر 12/ 2009 تمَّ دعمٌ سَخي من الوزارة لإعادة طباعة نسخة ثانية منها مُجدداً بذريعة "نفاد الكمية ولترشحها لجائزة خارجية" كما أُعلِن! والعجب العُجاب كيف تنفد الكمية طالما سُحبت حيثما وُزِّعت وتمَّ تخزينها في مستودع الوزارة أو غيره! ومن باب العلم أن المسلسل الذي أُنْتِج خارج الأردن بعد سنوات عن الرواية تم استبعاد العبارات والنصوص المشار اليها، ولم يأتِ على مضمون صفحات بكاملها كعادة انتاج الروايات حيث يتم معالجتها درامياً فتُعدَّل مضموناً وشكلاً!
إن طرح الموضوع أعلاه الآن يجيء لاستسقاء العِبَر من جانب، ومن جانبٍ آخر لإعادة النَّظر وتغيير النهج في مسائل عِدَّة تجري على ضَوء ما ورد ذِكره، وأخصُ في أهمية إعادة دراسة الكُتب التي طُبعت تحت عنوان "التفرغ الإبداعي" وهل كانت جميعها لتثقيف العقول وفيها ثروة مَعرِفيَّة حقيقية لِتَستحقّ تلك المخصصات المُجزيَة التي دُفِعَت لمؤلفيها ولطباعتها. علماً أنَّ مِن تلك المؤلفات ما كان يُمكن إنجازه بشهر واحد أو أقل دون تفرغٍ من خلال الكفاءات المتوفرة في الجامعات ومؤسساتنا الثقافية المختلفة وأيضاً مِن الموهوبين من رجالاتنا في الريف والبادية والحاضرة.
وأُضيفُ بالمناسبة ملاحظات أرجو أن تتسع لها الصدور، وقد كنتُ كتبتُ عنها في مقالات سابقة وأرى في بَسْطِها الآن ما يُسهم في دفع عجلة الثقافة وأيضاً ما يُخفِّف الضغط على الميزانية الحكومية المخصصة للثقافة ومشروعاتها:
إنَّ التصريح بأن مئات آلاف الكتب قد جرى توزيعها بالمجان خلال حملات مكتبة الأسرة وأنشطة مماثلة، وأن أعداداً أيضاً بيعت بأسعار رمزية، لا يُعدُّ هذا كله المعيار الحقيقي للهدف المنشود من تعميم الثقافة والارتقاء بها وتوسيع المدارك ونشر الوعي. ومع الإقرار أن هناك مِن المُهتمِّين مَن يذهب ليقتني منها بغرض القراءة والمعرفة، غيرَ أنَّ نسبةً مِن الكتب ما يأخذ طريقه كما جرى في حالات سابقة ليُباع على دُفعاتٍ في بعض المعارض والبازارات والأكشاك وعلى الأرصفة بأضعاف أضعاف القيمة، بعد قَصِّ أو طمس موقع الختم المُثَبَّت على كل كتاب ومُفادُه "إهداء وزارة الثقافة" أو مسح سعر الكتاب. مع الأخذ بعين الاعتبار توافد أشخاص يعملون لصالح معارض ومكتبات وبازارات وأكشاك وباعة أرصفة، حيث يستغلون فترات المعارض لشراء كميات يُركِّزون فيها على العناوين "المهِّمة" دون غيرها لإعادة بيعها بأساليب ماهرة!
ومع قيام الوزارة بإهداء كمياتِ كُتب لمكتبات المراكز التعليمة والثقافية والأندية وغيرها، لكن أليسَ من الضروري التحقق في مصير تلك الكُتُب. فهناك مكتبات قليلة منها تقوم بعرضها فِعلاً، لكن هناك مكتبات مُوَصدة الأبواب باستمرار، وإن فٌتِحت تَبيَّن أن الكتب مُكدّسة على الأرض تفعل الرطوبة فيها فعلها، وقد لا تجد في مكتبات أخرى أيّ أثرٍ للكُتب المُهداة!
ويبرز سؤالٌ في الخاطر: هل الارتقاء بالثقافة يكون بالاستمرار في بعض المشاريع دون تقييم جديد شفاف من ذوي الخبرة والاختصاص لكشف مواقع الخلل وسد الثغرات وخاصة ان تلك المشاريع تموَّل من الميزانية؟ وهل أبرزت المنتجات الثقافية التي طُبعت بمشروع المدن الثقافية وعلى مدى أعوام مَضت معلومات كافية شاملة تتسم بالدقة وتصلُح لتكون مراجعَ مستقبلاً عن تاريخ تلك المدن وآثارها، وعاداتها، ورجالاتها، وانجازاتها؟ وهل تمَّ تدقيق مخطوطات الكتب المختصة بالتاريخِ والتوثيق قُبيل الطباعة من أساتذة مختصين في جامعاتنا ذلك إن غضَّ البصر وعدم إدراج حِقب ومراحل تاريخية فيها وترجيح حِقب زمنية على حِقب لا يشكل أمانة بحق التاريخ ولا يجعل تلك الكُتب مراجع يُعتمد عليها للساعين نحو البحث؟ وهل وُظِّفَت على النحو اللازم أنشطة وبرامج تلك المُدن لتقريب الناس إلى بعضهم البعض وإذابة الفوارق بنشر الوعي وفتح آفاق التلاقي الحقيقي بين شرائحهم المجتمعية وعلى مستوى الوطن كله؟ وهل كانت المؤلفات الصادرة عن تلك المدن من نِتاج أهلها فقط أمْ تمَّ إدماج كُتب طُبِعَت لأشخاص من مدن أخرى بهدف إنفاق كامل المخصصات المحددة؟
وهناك سؤال آخر: أليسَ من المنطقي عند طباعة مؤلفات سواء على نفقة الوزارة أمْ من خلال المؤسسات الثقافية الكثيرة المشتغلة بالثقافة والمدعومة سنوياً من ميزانية الحكومة أن تُقدِّم تلك المؤلفات خدمة مَعرفية جديدة أو خبرة حياتية أو للتوعية بقضايا المجتمع وما يلزم من حلول خدمةً للوطن وللمواطنين؟ ويبرز سؤالٌ في السِّياق: أنرتقي بالثقافة حين تُطبَع في بعض مؤسساتنا الثقافية المتلقية الدعم المالي من الخزينة ودونَ تدقيق شامل مؤلفات تكونُ موضوعاتها مُستلّبة من مخزون الحواسيب ونتاجِ آخرين تعبوا عليها وسهروا فيجري عنونتها بعناوين جديدة، بل ويُصبح مَن جمعها عُضواً في تلك المؤسسات؟ ثمَّ أنرتقي بالثقافة حين تُطبَع بدعمٍ بعض المؤلفات ومنها على سبيل المثال في الشِّعر او النثر فتجدها رصف كلامٍ بكلام مع ضعف في مبَناها وركاكة في معناها. ثمَّ يُصار لتعظيم مؤلِّفيها وغيرهم مِمن هُم على النهج نفسه وترويج كتبهم وتكريمهم بما ينعكس سلباً عليهم إذ يتوقف واحدهم عن القراءة والبحث معتبراً نفسه مع المديح قد وصل لقامة شوقي او العقاد أو جبران وغيرهم؟
ثمة ملاحظة، تتعلق بورشات العمل والندوات تحت المسميات الثقافية المتعددة فقد لوحظ من متابعة لسنوات أن الموضوعات التي تُطرح في -حالات كثيرة- كذلك أوراق العمل المُقدَّمة فيها تكرار، بل واجترار عن موضوعات سابقة وأوراق عمل سابقة مِنها للأشخاص دون تقديم ما هو جديد. علماً أن عقد تلك الأنشطة يُكلف مبالغ لا يُستهان بها مع ما يتم دفعه للمحاضرين.
ويبقى القول، إنَّ طرحَ الملاحظات أعلاه لا يعني نُكران الجهود المبذولة التي تقوم بها الوزارة وكوادرها مع تشعُّب مَهامهم ومسؤولياتهم، إنما يعني فتح العيون على ما تضمَّنته مِن سلبيات ومآخذ لاجتنابها أو تصويبها خدمةً للثقافة وللإرتقاء بها إلى ما نَصْبو إليه جميعاً في بلدنا الغالي.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
عالَمُنا يَئِنُّ.. فماذا أنتم فاعلون؟
حنَّا ميخائيل سَلامة نعمان
عَالَمُنا يَئِنُّ، فما أنْ تخبو نيران الحروب والنزاعات في موقعٍ مِنه، حتى تتأجَّجَ في موقعٍ آخرَ فَتُسْفَك الدماء وَتُسْتنزَف المُقدَّرات وَتُهْدَم المنجزات وتتبدد الأحلام فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يَئِنُّ مِمن يوقظون الفِتَن ويُشْعِلون نار الفُرْقة والانقسامات لغاياتٍ ومآرِبَ فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يَئِنُّ مِن تضخُّمِ أعداد المُهاجرين، والمُهَجَّرين، والمُشرَّدين فماذا أنتم فاعلون؟
عالَمُنا يَئِنُّ في أرجاءَ واسعة مِن الفقر والجوع والعطش فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يَئِنُّ مِن تفشي الأوبئة والأمراض المٌزمنة والمُستعصية فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يَئِنُّ مِن تفاقم ظاهرة البطالة وآثارها السلبية ومضاعفاتها الخطيرة فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يَئِنُّ مِن تَصاعُد الآهاتِ والتَّأوهات لِلْهُموم الكثيرة والضِّيقات الخانقة فماذا أنتم فاعلون؟
عالمنا يئنُّ مِن المُتعدِّين على إنسانية الإنسان وكرامته وحقوقه المشروعة فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يَئِنُّ مِن المُتعالين المتغطرسين المُستكبرين الذين يَحْسَبون أنفسهم أعلى مكانة وأرفع منزلة من غيرهم من بني البَشَر فماذا أنتم فاعلون؟
عالَمُنا يئِنُّ مِن خانِقيِّ الحُرية على اختلاف حُقولها فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يَئِنُّ مِن سِياط المُتجاوِزِين لِلمُهمَّات المَسنودة إليهم فيستبدون حَسب أمزجتهم ويتسلطون حَسب رغائبِهم فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يَئِنُّ مِن الذين يسترهبون الضعيف والمسكين والأرملة واليتيم، بل ويتحكمون بمصائرهم فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يئِنُّ مِن مُدَّعِيّ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، فيما أفعالهم على النقيضِ مِن ذلكَ فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يئِنُّ مِن شُيُوعِ الأَثَرَةِ وتفشي ظاهرة تأليه الذات وعِشقِ "الأنَا " فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يئِنُّ مِن تغييب الضمائر وتقسِية القلوب وإخلائها من المحبة والرحمة فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يَئِنُّ مِن استثمار الغَنِيِّ المُتَجبِّر للفقير والمُعْدَمِ والمُسْتَضْعَف فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يَئِنُّ مِن أصحاب الوجوه المقنعة الذين يُتقنون التصنع والمُمَالقة فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يَئِنُّ مِن تَعاظُم أعداد المُفتَرين الذين يَلوون الحقائق وَمُجريات الأحداث والوقائع لمكاسب وغايات فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يَئِنُّ مِن انهيار الأخلاق وتمادي المُتاجرين بالأجساد وما يُخالف الطبيعة البشرية مِن شُذوذٍ فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يَئِنُّ مِن تجارة المُخدرات وتأثيراتها الخطيرة على بِنْية المجتمعات وتماسُكِ الأُسَر فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يَئِنُّ مِن أصحاب الفِكر الإقصائي الذين جعلوا من أنفسهم دَيَّانِيِن على غَيْرِهم فَنَشِطُوا في إثارة النَّعَرات وتمزيق عُرى الروابط المُتآلفة فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يَئِنُّ مِن الذين استعبدتهم الشهوات وتملكتهم الأهواء الذين يهدرون الأموال عليها بسخاءٍ بينما يَحبسونها عن الفقير والمحتاج والمريض المُعْوَز فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يَئِنّ ُفيما خيرات كوكبِنا الأرضي وثرواته وموارده تـُحـَّولُ لا لِخير أهل الكوكب وحاجاتهم الرئيسية المُلِحَّة، أو لِبَسْط الثروات لإقامة المصانع الضخمة والمشروعات الخَدَميَّة لرفاه الإنسان ورفعِ معاناتهِ وما يُحيط به مِن ظواهر سلبية ومخاطر، إنَّما لتصنيعِ آلاتِ الحربِ والدمارِ والقتلِ والتشريد، ولإيجاد أسواق دائمة لها لاستخدامها.. أو لتخزينها دونما حاجة والانفاق اللامحدود على صيانتها فماذا أنتم فاعلون؟
عَالَمُنا يَئِنُّ، عَالمُنا يتوجع، عَالَمُنا يعاني ويُكابد؛ تأوهات وآهات تستصرخ الضمائر وتتصاعد مِن أرجاءِ عَالَمِنا فتشُقّ عَنان السماء فماذا أنتم فاعلون؟
الحَاضِرُ حاضِرِكُم، والمسؤولية مَسؤوليتكم، إلَيكُم تَرنو العيون وتتجه الأفكار مَن لا يَعْسُرُ عليكم أمرٌ!
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.