والأمُّ أَوْلى بإكرامٍ وإحسانِ

22. 03. 22
الزيارات: 1544

" والأمُّ أَوْلى بإكرامٍ وإحسانِ.."

                                          حنا ميخائيل سلامة

 

 كلَّما أطلّ عيد الأمِّ طافَ الخاطِر بمَا نظمَه مِن جُملة ما نَظَم مِن روائع الشاعر الفيلسوف المَعرِّي المُنتقل لرحمة الله سنة973م.:

 

 والعيـشُ ماض ٍ فأكرم وَالِدَيكَ بـهِ      والأمُّ أولـى بإكـرامٍ وإحســان ِ

وَحَـسبُها الحملُ والإرضاعُ تُدْمِنُهُ      أَمرانِ بالفضلِ نالا كلّ إنسانِ

هذان البيتان مِن الشِّعر لو أردنا تسطير مقالةٍ مستقلة عمَّا يَحملان مِن عِبرَة ونُصْحٍ وموعِظة لكان ذلك جائزاً مُحبَّبَاً. وليس بمستغرب أن صاحب البَصيرة الحادة رغمَ ذهاب بَصَرِه، المُتوقِّد ذكاءً المَعرِّي هو عيْنُه مَن نظمَهما وأراهما يَصلُحان وبهما حيوية وديمومة وكأنه يخاطب من خلالهما إنسان عصرنا هذا. وإذا كان المَعريّ يدعو لإكرام الوَالِدَيْن معاً فإنه يُرجِّح في الوقت نفسه كَفَّة الميزان للأمِّ مُسلِّطاً الضَّوءَ على مُهمَّتها الجليلة المتميزة قبل ولادة المولود وما يتلو ذلك من مسؤولياتٍ غير مُعْرِضة أو مُتوانية إنما مُمْعِنَة راغبة حُباً منها أو كما وصفَ "مُدْمِنة".

 تَحمل الأُمُّ بشَمَمٍ إرثَ الآباء والأسلاف، وتراها تؤسس بيتها على المحبة والحنان ومكارم الأخلاق وَتَجدُها تغذي أطفالها على الخلق والفضيلة لإنشاء مجتمع على ركائزَ مَكينةٍ نبيلة.  إنها زهرة طهر وعفاف تزين صدر رَجُلِها، وهي الأمينة عليه الحافظة لعهده والمُدْرِكَة للحياةِ بقلبها وعقلها مَعاً. وهي عَينُها مَن يُضفي على الحياة عُذوبة وحلاوة فَتُحيطُ بالأمور والضِّيقات صابرة صَبورة، نهجُ حياتها أنْ تجمعَ ولا تفرق، أنْ تجبر ولا تكسر، أنْ تعفو ولا تَدِين. إنها هيَ وليس سِواها مَن تُضمِّد جراح زوجها المتعب من مشقات سعيه لتأمين رزق أبنائه ومستقبلهم. وغاية سعادتهما تتجسَّدُ في تربية أبنائهم وتهذيبهم واعدادهم وصقلهم بالمثل العليا ليكونوا عُدّة المستقبل في تكوين أُسَرٍ مُتحابة نَموذجيةٍ تحفظ عهدَ الوَالِدَين وتَذْكُرُ متاعبهم وتضحياتهم نحوهم، وليكونوا أيضاً دُعاةً للخير والبِرِّ وعناصر بناء لمجتمعهم ووطنهم.

وكلما أطلَّ عيد الأُمِّ تعود بنا الذاكرة لشهادة الوفاء الرائعة التي سجلها التاريخ على لِسَان نابليون لأمِّه يقول فيها: "إنَّني مَدين لأمي بكل ما حُزتُه من الفَخار، وما فُزت به من العَظَمة، لأن نجاحي كان ثمرة مبادئها القديمة وآدابها السَّامية". كما تعود بنا الذاكرة لردٍ مِن أحد حُكماء التاريخ حينَ سُئِل عن أروع كتاب قرأه فأجاب: إن أروعَ كتابٍ قرأته "أمي".

     وإزاءَ مُجملِ ما سبق ذِكْره وفي الجُعْبة الكثير، فإننا وحيثــُما حَلَلْنا، نَسمَعُ قِصصاً مؤسفة عن تردِّي مُعامـَلةِ أبناءَ لِوَالِديِهم، ونـُكرانهِم لتلك المحبة والحنان والمشقات والآلام وللمشقـَّات والآلام التي احتملوها في تنشئتِـهـِم وتربيـَتِهِم وتعليمهم والسـَّهَرِ عليهم، في الصـِّحةِ والمرض، في الشـِّتاءِ الباردِ والصـَّيفِ اللاهب، في ذهابـِهـِم وإيابـِهم.. ومَا إلى ذلكَ الكثير الكثير.

     ولعل الأمر الذي يُحزن القلب، أنَّ هناك مِن الأبناء مَن يعتبرونَ الآباء والأمَّهات من حسابات الماضي ويهمسون في جلساتهم مع أقرانهم أنَّ عقلياتهم عتيقة ويتندَّرون عن قرارات كانوا اتخذوها وكانت حينها سليمةً كما ينبغي أن تكون في وقتها وزمانها.. وفوقَ هذا تراهم يتشامخونَ عليهم ولا يستمعونَ لنـُصحِهِم وتوجيهِهم ورؤيتهم العميقة للحياة بـِما مرَّ عليهم من تجارب وخِبرات! وما يُحزِن القلب أيضاً قيام أبناءٍ بإيداعِ آبائـِهِم في دورِ رعايةٍ ثـُمَّ الاحتجاب عن زيارتهم، بل تناسيهم، سوى من حِفنـَةِ دنانير يرسلونها مع مُراسِليهم لمُحاسبيّ الدور بينَ الفـَينةِ والفينة. وما أن يصل خبر انتقال والدِ أحدهم إلى رحمةِ الله، حتى يـُسارِع الابن الجاحد إلى إنشاءِ صيوان عزاءٍ كبير، ليـُمثـِّلَ أمام الناس دوراً مُتقناً في مسرحيةٍ محدودة الأيام يُبدي فيها حُزناً وأسىً. والحالُ عينـُهُ، عندما يـُلقي أحدُهم أمـَّهُ التي أرضعتهُ من ثـَديها على الرَّغمِ من المتاعِبِ الجسدية والنـَّفسية التي كانت تتلقاها في طفولتِهِ، في غـُرفةٍ منزويةٍ ولا يعودُ يـُطلُّ عليها تشامخاً وتكبُّراً وقد جفت المحبة من قلبه وتصدَّعت مشاعره!  

    قبلَ أكثر من ألفين وستمائة عام ومن بلادِ آشور، أوصى حكيمٌ يُدعى طوبيـت وَلَده قائلاً:" إذا مُـتُّ فادفن جسدي دفناً حسناً، وأكرم والِدَتـَكَ ولا تتركها جميع أيام حياتـِها، واعمل ما يـَطيب لها، ولا تـُحزن نـَفسَها بأيِّ أمرٍ كان. أُذكر يا بنيَّ، المخاطر والمشقات التي عانتها من أجلك وأنت في أحشائِها، ومتى استوفت هي أيضاً زمانَ حياتها، فادفنها إلى جانبي في القبرِ نفسه".

وفي الختام ومع التهنئة العَطِرَة بمناسبة عيد الأم فإننا ندعو بأملٍ الأبناءَ للتحرك دونَ إبطاءٍ لأخذ بركة أمهاتهم وإكرامِهم ونيل رضاهم وتحريرهم من السأم وبعث التفاؤل في وجوهِهم، فبهذا يَعْظُمُ العِيد وتزدادُ إشراقته. ولا يغيب عن الخاطر أن نترحمَّ على جميع الأمَّهات الَّلاتِي شاءت الإرادة الربانية ان ينتقِلن من هذا العالم إلى عالم الخُلود بعد أن أدَّيْنَ رسالتهُنَّ بأمانة وتفانٍ.

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.                                     

 

 

 

 

 

 

Comments powered by CComment

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم