بقلم:حنا ميخائيل سلامة نُعمان
ها إن القصد الخلاصي، السّر الذي كان مكتوماً في الأزمنة الغابرة خلف الرموز من جنـّةِ عَدن إلى العُـلـّيقة المُـشتعِلة "غير المُحتَرِقة " قد تحقق بإعلان ساعة الزمن "مجيء مِلء الزمن،الكلمة المتجسد". كان ذلك قبل ألفي عامٍ ونيِّف عندما أصدر أغسطس قيصر إمبراطور روما أمراً بإجراء الإحصاء الأول لشعوب إمبراطوريته، وكأنه صار بالأمر هذا من حيث لا يدري أداة في يَد العليِّ لإتمام مقصده في توجيه المُصطفاة على نساء العالمين مريم العذراء ويوسف البار ليذهبا من الناصرة إلى بيت لحم ليُسَجِّلا في صحائف الإحصاء.
في جوٍّ مُشْبَعٍ بالصمتِ والصلاة أضفى المولود "الناطق في مهده" على مغارةٍ بَسيطةٍ من نُورِه نوراً. أما خارج المكان فقد انتظمت جوقات الملائكة تبشر الناس بفجر جديد مرنِّمة "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام". ويهرع الرُّعاة الذين كانوا يقومون بحراسة ماشيتهم ليلاً ومع صوتٍ يـَقـرعُ آذانَهم "يبشرهم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب" إلى المغارة التي أضاءت، ليجدوا "طفلاً مقمَّطاً مضجعاً في مذود" هو يسوع عَينُه مَنْ اشرأبت إلى طلعته الأزمنة "السرُّ المكتوم منذ الدهور والذي لم يعلن لبني البشر في الأجيال السابقة كما أُعـْلـِنَ الآن". أما أمّه مَن نالت حظوة عند الله، فظللتها قدرته لمَّا أذعنت لمشيئته يوم قالت للملاك في الناصرة: "إني أمَة ُ الرب، فليكن لي بحسب قولِك" فقد ابتهجت وهي تحدق إلى بهاء وجه وليدها.
لكن السلام الآتي لم يَرُق لهيرودس ممثل الإمبراطور في المنطقة، حيث قدَّر أن هناك سراً وراء ولادة يسوع ، وأنَّه قادم لحكم زمني يؤثر على إمبراطورية روما. وقد تعاظمت مخاوفه مع وصول وفدٍ من الحُكماء حضروا من المشرق مُحملين بهدايا مِن المُرّ رمزاً لآلامه، والبخور رمزاً لإكرامه ومكانته، والتِّبْرِ رمزاً لملكوته. وتدافعت الأحداث وأوامر الروح لترغم مريم ويوسف التوجه بالطفل إلى مصر. وما أن تحقق هيرودس أن حُكماء المشرق قد رجَعوا لبلادهم دون أن يعودوا فيخبروه عن شأن الوليد ومكانه وكانوا أيقنوا الشر الذي أضمرَه له، حتى أصيب بنوبةِ غضبٍ فأمر وليُبدِّدَ مخاوفه بقتل أطفال بيت لحم "من إبن السنتين فما دون". وما أن مات هيرودس حتى عادوا من مصر إلى وطنهم، حيث ترعرع يسوع ونَما بالقامة والحكمة والمعرفة.
أيها الكلمة المتجسِّد، نستذكر في عيد ميلادك الأحداث التي جرت في بيت لحم عندما تمَّ سفك دمِ أطفالٍ أبرياء بأيدٍ جائرةٍ ، ونستذكر"الصوت الصارخ في البرية" يوحنا المعمدان، مَن كان يُعمِّد بمياه نهر الأردن داعياً إلى التوبة والعَدل والرحمة وجَعْلِ "سُبُل الرب مستقيمة" وغير بعيد عن الموقع وفي قلعة مكاور يحدثنا التاريخ الديني عن احتفال أحياه "هيرودس" ليكون بالتالي رأس البريء الشهيد يوحنا المعمدان الثمن، إذ وُضِع على طبـق إرضاءً "لهيروديا" لا لذنبٍ اقترفه سوى صرخته بوجه هيرودس إنتصاراً للعِفَّةِ والعدل والحقِّ .
إنها مأساة "قايـيـن وهابيـل" تتجدد وقـد أطلت من وراء العصور، فيـُقـتـَلُ البريء بيد الغاشم، حتى إذا سأل واهب الحياة:" قايـيـن، قايين، ماذا صنعت بأخيك؟" توارى من شرِّ ما فعلَ! نعم، تتجدد المأساة وتتوسع في عالمنا الذي تُنتَزَع فيه الحقوق مِن جانبٍ وتغوصُ من جانبٍ آخرَ مناطق فيه في حَمْأة الألم، فتتعالى زفرات المتألمين وتشق أنَّاتهم عنان السماء من ساحات الحروبِ والاقتتال والبغضاء، ومن ساحات الفقر والمرض ومن أنين المحرومين والمشردين ، ومِن هَلَع الأطفال الأبرياء ومِن الخوف المُستَتِر في عيون غيرهم.
لقد دشن السيد المسيح العهد الجديد على قاعدة المحبة التي لا تحدها حدود، إنَّها محبة الآخر، محبة كل إنسان "أحسنوا إلى مبغضيكم وأحبوا أعدائكم ذلك إن أحببتم من يُحبُّكُم فأيُّ أجرٍ لكم، أوَليْسَ العشارون يفعلون ذلك!" وأضاف في تعليمه أيضاً: "إن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فإسْقِه لأنك إن فعلت هذا تجمعُ نارَ جَمرٍ على رأسه" وأيضاً "افعلوا أنتم للناس كلّ ما تريدون أن يفعلوه بكم" كما أن إدانة الآخر والحكم عليه تشكل تعدياً على مقام الله القُدُسي" لا تدينوا لئلا تدانوا، أتهتم أن تخرج القذى من عين أخيك قبل أن تخرج الجذع الذي في عينك؟" وقد جاءت تعاليمه لتحرر الإنسان من قيود الحرف والطقوس "أريد رحمة لا ذبيحة"، "ملكوتُ الله في داخلكم".
يا صاحب العيد، يا رئيس السلام، على تلة من تلال شمال فلسطين قلت:"طوبى للرُّحماء فإنهم يُرحَمون وطوبى للسَّاعين من أجل السلام فإنهم أبناء الله يدْعَون". فإياك نسأل أن تمنح عالمنا السلام،السلام الحقيقي الذي طال إنتظاره. وبهذه المناسبة المجيدة ومع إطلالة العام الجديد الذي نرجو أن يكون عام يُمنٍ وخيرٍ وسلام ندعو الله أن يحفظ راعي مَسيرة أردنّنا الظافِرة جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المفدى وأن يبارك جهوده الموصولة ليبقى هذا الحِمى شامخاً منيعاً آمناً مزدهراً .
Comments powered by CComment