بقلم حنا ميخائيل سلامة نُعمان
كمِثلِ وَقـْـع شمسِ مُنتصفِ نهارٍ تمّوزي على الرأس جاء قول جليسي" سُبحان الله، الأموات بتصرف على الأحياء " قلت متسرِّعاً دون أن أعيَ مقصده: أمعقول هذا الكلام؟ أجاب: بلى . فما أن طوى الردى وليّ أمر فـُلانٍ وتأكد أن التراب قد هِيلَ من فوقه، حتى تنهد تنهدة عميقة كمن أزيح عن صدره حِمْلٌ ثقيل. ثم مضى يُمَثِّلُ أنه محزون وحزين أمام جَمهَرة المُعَزّين في صيوان راقٍ أُعدّ لِمَن كان سالكاً بالحق ومتكلماً بالاستقامة.
وما أن انقضت أيام العزاء وكانت عليه طويلة حتى هرول إلى مختار الحي وبيدِه دفاتر العائلة يَنشُد منه "مضبطة" مازالت معتمدة من الجهات الرسمية، يُسَجـَّلُ فيها حسب العادة أسماء الورثة، للمضي على ضَوئها في معاملة استصدار شهادة حصر الإرث من المحكمة المختصة. وما أن حصل عليها حتى بادر إلى توقيع أمّه وشقيقاته على تخارُجٍ مستغلاً حالتهن النفسية، وضعف مشاعرهن قبل أن يَصْحَين من هول صدمة فِراق الزوج والأب. وقد أسرع في توقيعه لهُنَّ بناءً على نصيحة مِن زمرة من أقرانه الغيورين على مصلحته ومصلحتهم ! بقولهم له - باللغة الدارجة - "أسْرع ووقعهم قبل ما يوعُّوهم، وقعِّهُم قبل ما تبرد دمعتهم". وما أن طوى الأوراق الموقعة وغيّبها في جيبه حتى شقّ طريقه نحو البنوك يتلمس أموال ولي أمرهِ الراحِل..ثم إلى دوائر التسجيل يبحث عن غير المنقول من الأراضي والعقارات، وكان مُتهللاً منشِداً "شبيك لبيك الوِرْثة بين إيْدِيك " !
وما هي إلا فترة وجيزة حتى تغير نمط سلوكه، فصار مولعاً ببريق النوادي والملاهي والكأس والطاس، حيث تتلـّوى الحسان المِلاح – بمظهرهن الزائف - من حوله، فيُنقطهُنّ من أموال المرحوم بسخاءٍ.. وهُنّ يرددن إسْمه بدلعٍ على أصوات العود والدف والمزمار. رافق ذلك اختياره لأحدث الجديد من السيارات للشطحات والسَّفْرَات، ونَهَمٍ غير مسبوق بتحقيق الملتوي من الطموحات. يُنفِقُ وينُفِقُ هذا الذي فوق الثرى مِن أموال الُمَغيّب تحت الثرى.. أو بصورة أوضح المَيْتُ ينفِقُ على الحيِّ !
وفي خضمّ سروره ببعثرة وتبديد ما تحقق بين يديه من أموال، نسي أمه التي باتت تطوي في سويداء قلبها الأوجاع، وكذا شقيقاته اللاتي اعتبرنه حالة ميؤوساً منها، مستذكرين بألم التوقيع الذي تمّ في قمـّة ضعفهنّ! قد يبرز من يقول لعل ذاكَ الراحل كان يحبس أمواله عن فلذة كبده؟ غير أن الحال ليس كذلك ، بل كان يصونه كحدقة العين وينفق عليه بسرورٍ وبسِنٍ ضاحِكٍ ليدعمَ رُقيـَّه وتقدمه.
ثمة مشهدٌ آخر في الحياة يتمثَّلُ بآباءٍ يتحفـّظون على أراضيهم وأموالهم ولا يفرجون عن شيء منها ليعيشوا وأسَرَهُم في ألقٍ وبحبوبة.. وإن تجاسر أحد الأبناء هامساً: واأبتاه ! أريد عَونك فإيجار بيتي قد استحق، وامرأتي على وشك أن تنجِب واليد قصيرة، وكان أفضى لأُمه من قبل عن رغبته أن تسانده هذا الرجاء، اهتز كيان ولي أمره وإذا به يضرب الأرض بعصاه صارخاً "عندما أموت افعلوا ما ترغبون!" ولا يتحرك ليُفرِّجَ كرْبَ ابنهِ بل يتشبث أكثر معنـّفاً إياهُ على تدخُّله بما يملك، متجاهلاً قول الشاعر:
هب الدنيا تـُساق إليك عفـواً ألـيـس مصيرُ ذاك إلى زوالِ
غير أن هناك في مجتمعنا، من نظـّـم أموره بالتمام والكمال كي لا يكون انشقاق وصراع على الميراث بعد رحيله، ثم تراه وقد استبقى لنفسه ما يجعله يعيش بكرامة وبحبوحة. ولعلك إن التقيت بأحد هؤلاء وهو يُرَفــِّهُ عن نفسه بعد جدّ وكدّ لسنوات عُمرٍ طويلةٍ أجاب ضاحكاً " أنا أصْرِفُ من وِرْثتي !"
كلمة ختام: في زمن تتداعى فيه القيم، تترامى إلى مسامعنا مآسٍ تصدع الأفئدة لهولها. وعليه، أيا أولياء الأمور، لقد آن لكم أن تعيشوا مثل باقي خلق الله فرتبِّوا أموركم ونظـّموا أحوال مَن هم تحت جناحِكم واستمتعوا بما أنعم الله عليكم ألستم الأولى به..وابْسطوا أيضاً يدكم لما هو خيرٌ وأبقى للفقير والمحتاج . فلا نفع لكائن مَن كان بما حشد ، ذلك أن الأشياء العزيزة والثمينة عليه والتي تقع أمام ناظره وتحت يده ستصبح لغيره في طرفة عين! قال سليمان الحكيم: "باطل الأباطيل كل شيء باطلٌ وكقبض الريح" .
Comments powered by CComment