في رحيل صديق العُمُر الأستاذ الدكتور محمود السمرة طيب الله ثراه
" أيَدَ المنون قدحت أيّ زناد... "
بقلم: حنا ميخائيل سلامة نُعمان
هَا هُوَ جُنديٌ نُحبُّه من جنود الفكر والقلم يخرج من ظلِال الزمن إلى دار الخُلود. الأستاذ الدكتور محمود السَّمرة أنموذجٌ فريدٌ مائِزٌ للمثقف العَالِم المُتَبحِّر، والباحث المُنقِّب، والأكاديمي المِعطاء. إنّه هُوَ مَن أحبَّته نفوسنا مُذ عرفناه قبل عُقودٍ من الزمن لسُموّ روحه، وعظيم سجاياه، وبديعِ ما كان يُقدِّم ويُنجِز لوطنه في ميادين التعليم العالي والتربية والثقافة، ولجهوده الموصولة في تقريب أبناء الثقافات المختلفة إلى بعضهم البعض بالكلمة والقلم كما تشهد مؤلفاته العديدة التي تتسم بالشمولية وعمق إدراك الحقائق الإنسانية والكونية .
شَد الراحلُ الكبير الدكتور السَّمرة على قيثارته وابتدأ مشوار عُمُره يعزف مزاميرَ أمَلٍ بالمستقبل ليصل بالمثابرة والإرادة القوية إلى ما كان يصبو إليه. كان رحِنه الله عصامياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنىً فقد بنى نفسه بنفسه واسْتنصَر جهده الذاتي في الدرس والبحث والسهر. وقد دفعته نفسُه الطَّمُوحُ وإرادته القوية لأن يثابر ويصل بجدارة إلى أرفع الدرجات الجامعية وأعلاها. كان ابتدأ رحلة العمر من مسقط رأسه الطنطورة على الساحل الفلسطيني وكانت أثراً كنعانياً قديماً " سعادة ناسِها الذين يعيشون في تكافل وتعاضد وتواد القناعة بالقليل.." كما دوَّن الراحل في سيرته الذاتية المُعنونَة " إيقاع المدى" كان عاشقاً لبحرها ورملها وزنابقها التي كان يجمع منها صباح كل يوم إضمامة للمعلم فرج، الذي كان له دور كبير في حياته، فقد مكنه على الرغم من ممانعة وليّ أمره رحمِهُ الله "الذي كان لا يرى خيراً في أن يتابع دراسته لرغبته في أن يعمل معه" مِن الانتقال من الصف الأخير في قريته وهو الرابع الابتدائي الى حيفا المدينة العامرة بالحياة ليعيش فيها " سنوات الصبر المُرّ وحيداً قانعاً بالقليل.. وعُمره لم يتجاوز الحادية عشرة". ثم انتقل الى الكلية العربية في القدس عام ١٩٤١ليحدد الأستاذ جميل علي مسار حياته بعد أول درس في الرياضيات ليحوله مع آخرين إلى الفرع الأدبي على عكس ما استقر في ذهنه. وبقيت أوامر والده له بأن يكون "الأوَّل ولا شيء بعده.. تـُلازمه" فكان متميزاً مبدعاً في الكلية العربية كما في حياته كلها يقول" " تميُّزي وهدوئي هما صفتان لازَمَتاني طوال مدة دراستي وفي عملي وفي أي مكان كنت، وأية مسؤولية تولـّيت، تصرفاتي كلها مدروسة ومسيطر عليها".
أما وقد تقرر إيفاده في بعثة الى بريطانيا لدراسة التاريخ، إلا أن هواه كان مع الأدب العربي، فدَرَسَه في جامعة فؤاد الأول في القاهرة الى جانب صديقين عزيزين عليه.. وكان له ما أراد. ولقد أحسن وصفه السفر الى بريطانيا لإكمال الدراسة والحصول على درجة دكتوراة "بالمغامرة.." وذلك للظروف القاسية في مرحلة كان العالم يمور فيها بالإحداث المفصلية كذلك معاناة المنطقة حيث الأهل، من الحرب والفوضى والتشريد، يقول بهذا الصدد "كم من الشباب المثقف الصادق الوطنية ذهب ضحية الفوضى على أيدي أناس أميّين". وبمرارة يعبر عن حاله في الغُربة: "أما أنا فقد انقطعت صلتي بأهلي ولا أعرف ما حل بهم" ويضيف: "المطر المنهمر يزيد في انقباضي وَوَحْدَتي، وليست الوَحْدَة أن تكون وحيداً من الناس، بل أن تكون بعيداً عمن تحب". من لندن يبُثّ في واحدة من رسائله آنذاك لشريكة حياته السَّيدة الفاضلة سهام اليحي "أم رائد" التي وقفت الى جانبه بعزيمة قل نظيرها، وبأدبٍ رفيعٍ لواعج شوقه وحنينه لهم "حنين الظامئ الضارب في البيداء للماء الذي هو سر الحياة، أعيش بكم ومعكم ولكم" .
مَهوى فُؤادِهِ كانت الجامعة الأردنية التي التحق فيها عام ١٩٦٤ بعد عمله نائباً لرئيس تحرير مجلة العربي الصادرة في الكويت. كان يؤمن أن الدراسات الجامعية الجادة التي تتسم بالعمق لكشف الجديد المُـغـيـّب تسهم في دفع المعرفة الإنسانية الى الأمام. وكان حريصاً على تعليم طلبته الإفادة المثمرة الخيّـرة من الحياة، محركاً إحساسهم من روحه وعقله فاتحاً عقولهم على كنوز الأدب العربي والعالمي فتخرّج برعايته اليَقظى الكثير الكثير مِن الأفواج الجامعية التي أقبلت لتخدم أردننا العزيز ووطننا العربي بكفاءةٍ وتمَيُّزٍ، وأشهدُ أننا ما عرفنا أحداً منهم إلا وأشاد به، وهو بنظر كل من عرفه نبيل، صفوح، يحارب قـُصر النظر والتفكير الحشوي والتقوقع.ومن رئاسة الجامعة الأردنية إلى وزارة الثقافة حيث عُيِّن وزيراً لها لحكومتين متعاقبتين وبعد ذلك لرئاسة جامعة البترا -جامعة البنات سابقأ -. لقد سَطع نجمُ الراحل الكبير الدكتور السَّمرة في بلاد عديدة فقدَّرَته أيَّما تقدير، واحتفت به مُثمِّنة تآليفه وترجماته وجهوده المائِزَة في الإرتقاء بالتعليم العالي. وجديرٌ التنويه أن الراحل الكبير الذي كان مُحِبّاً لِلُغة الضاد وغيوراً عليها قد جمع إليها إتقانه للغات الإنجليزية واللاتينية والفرنسية.
في دعوةٍ من قلبٍ حريص على جيل الحاضر والمستقبل يوجِّههم قائلاً " على أبناء هذا الجيل ألا ينتظروا أن تتحقق أمانيهم دون جدٍ وكدٍ وسهر "لا تظنوا أيها الأبناء الأحبة ان هذا الذي نحن فيه اليوم لم نعان في سبيله" ويشد من بأسهم بقوله "أنْ لا يأس في حياتنا ولا عقبات تفت من عضدنا.. علينا ألا نكون ضعفاء أمام ظرف طارئ والمستقبل أمامنا".
كان الراحل الكبير أنموذجاً رائعاً في رباطة الجأش التي تنم عن مقدار عظيم من الشخصية، يحترم كلمته، ويعافُ نفاق المنافقين وكل مُتمظهِرٍ بغير حقيقته مِن الذين يمتطون جهود وسهر غيرهم. وهو إلى ذلك صاحب روح مرحة تشتاق أن تمضي النهار كله بصحبته، يـُشيعُ الفرح في لقائه الودي مع جـُلاسهِ حيث كنا نلتقي لسنوات طويلة صُحبة الراحل الكبير شيخ النُّقاد إحسان عباس والشاعر الكبير سليمان المشيني مدَّ الله بعُمره وقامات فكرية أخرى، وكان يردد رائعة" زحلة" لشوقي ليضفي جواً من البهجة على تلك الجلسات:
"لـم تـبـقَ مـنا يــا فـؤاد بقيةٌ ٌ لـفـتــوة أو فــضلة ٌ لعــراكِ"
"كنا إذا صفقت نستبق الهـوى ونشدُّ شـدَّ العـُـصـبةِ الفـتـاكِ"
وإن تراكمت الهموم على أحدٍ خفف عنه وردَّد مع الخيام:
"غدٌ بظهر الغيب واليوم لي ولكم يخيبُ الظنُّ في المُقبل ِ"
"ولـستُ بالغـافـل ِ حتى أرى جـمـالَ دنيـاي ولا أجتـلـي"
وكم تألم لما تعانيه البشرية من آلام وويلات فيتساءل: "لماذا يتم وضع إنسان زماننا تحت نيرِ هذه الضوضاء التي تعصف بعالمنا؟ ولمصلحة من القتلُ والدمارُ والتشريد؟ بدلاً من مواجهة الألم البشري بتوجيه الجهود لمكافحة الأمراض والأوبئة والمجاعات وخير الإنسان وعدله وسلامه". ومن أقواله التي تستحق وقفة مُتأمِلٍ " الحديث عن ماضينا وثيق الصلة بحاضرنا فهو في رأيي له فائدتان أولاهما تمثل الصفات المجيدة فيه لتكون حافزاً لنا، و ثانيهما استيعاب مآسيه لنتجنب الوقوع فيه وما الاسباب التي أدت الى أفول مجد العرب في الماضي، الا هي بعينها التي تعاني منها أمتنا اليوم" وكيلاً يجعل للتشاؤم موضعاً فالمعاناة الإنسانية ليست حصراً على إنسان هذا العصر، يستشهد بأبيات المتنبي الرائعة :
"صحب الناسُ قبلنا ذا الزمانا وعناهم مـن شأنه ما عنانا"
"وتـولـوا بغـصةٍ كـُلـُّهـم منــ ـه وإن سُرَّ بَعـُضهـُم أحيانا"
"ربـما تحسـنُ الصنيعَ لياليــ ــه ولكن تـُـكـَدّرُ الاحـسـانـا"
أمَّا وقد طوى هذا النَّسْرُ جناحيه عن قمم أردُنـِه الذي أحب، فإنَّه قد ترك في قلوب عائلته وذويه ومحبيه وعارفيه حسرة كاوية، وفي عيونهم دمعاً سخيـنـاً.
ألا أرقد بسلامٍ أبا رائد، وحسبك الآن وقد تحررت من قيود الجسد، وحُطام هذه الفانية مشاهدة وجه ربِّك، فَمَن كنت َ تناجيه في حياتِك سيتولاك برحمته ويظللك بإحسانِه. ومع الشاعر أردد :
" أيَدَ المنون قدحت أيّ زناد وأطرت أيَّة شعلة بفؤادي"
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Comments powered by CComment