تبرير أزمة السير الخانقة التي تشهدها العاصمة والقول أنها ناجمة عن ازدياد أعداد المركبات أو بسبب مشروع الباص السريع أو القول في مراتٍ أنها عائدة للظروف الجوية أو بسبب التحاق الطلبة بجامعاتهم ومدارسهم، أو بسبب تواجد مركبات للمغتربين وغير ذلك من تبريرات، لن يحل الأزمة التي باتت تُعطِّل مصالح الناس وتؤخِّرهم عن التزاماتهم وأماكن عملهم ومقاعدهم الدراسية. والمشهد المؤلم أن تجد سيارات الإسعاف أو طوارئ الكهرباء محشورة في وسط الأزمة بالرغم من استغاثة زماميرها لفتح مَسْرَبٍ لمهماتها الإنقاذية. ويغفَل الأثرياء أن الأزمة المستمرة تستنزِف أموال المواطن الذي يكون خصص مبلغاً محدَّداً أجرةً لتنقلاته وتنقلات أبنائه فإذا بها تتضاعف لِتُجْهِزَ على راتبه، والحال عينه على مالِكيّ السيارات الخاصة من أصحاب الدخل المحدود، وما أكثرهم، حيث تَضَاعف مصروف وقود مركباتهم بسبب مُكوثِهم مُسَمَّرين فيها، والكل يعلم أن محركاتها لا تعمل على الهواء المجانيّ!
إن تبريرات من يعنيهم الأمر غير كافية، وأراها تُخفي الأسباب الرئيسية الكامنة وراء أزمة السير والاختناقات المرورية. فقد تبيَّن أن مَن خَطَّط ودَرَس وأمَرَ بتنفيذ بعض مشاريع الجسور والأنفاق لم يضع بحساباتِه أنها ستُرَحِّل الأزمة المرورية مِن مواقع وستجمعها نفسها وتُعَقِّد انسيابها في مواقع أخرى. كما أن َّالترويج الذي جرى لها بأنها ستختصر المسافات وتوفر الوقت قد ثبت بُطلانه على نحوٍ ما، بدليل ما يقضيه المواطن من وقتٍ طويلٍ داخل الأنفاق وخارجها وعلى الجسور وفي محيط الدوَّارات فيذهب صبره وتحترق أعصابه!
وإذا ما بحثت عن سبب أزمة السير على شوارع رئيسية وجدت قيام أبراج ومنشآت وأبنية بارتفاع عشرة طوابق ومجمعات تجارية ضخمة ومعارض سيارات على جوانبها، فتتساءَل كيف مُنحت تراخيصها دون إجراء الدراسات المعمَّقة من لجان متخصصة من مختلف الدوائر المعنية لوضع الشوارع ومدى قدرتها على استيعاب حركة آلاف السيارات المتدفقة إليها من العاملين فيها أو الزبائن بالإضافة لحركة المركبات والحافلات وغيرها التي تستخدم الشوارع عينها في نشاطها المعتاد؟ ومِن الملاحظ أن كراجات أغلب تلك المنشآت لا يتم فتحها فتُصبح الشوارع ملاذاً لاصطفاف مركبات المُستَخدَمِين والمتسَوقين فتضيق الشوارع وتبدأ الاختناقات المرورية.
ومِن الأسباب المهمة عدم تقيد بعض لِجان الأمانة - كما يقال-بالمخططات التنظيمية في المناطق السَّكَنية حيث يجري تغيير صفة استخدامها ومنحها دون الاكتراث لوضع شوارعها – ولما سيؤول إليه حالها !- بعد منح التراخيص لمحلات وأسواق تجارية وحضانات ورياض أطفال ومشاغل ومعاهد تدريب، حيث تصبح شوارعها الضيقة مختنقة تدُبُّ فيها الفوضى المرورية بسبب توافد آليَّات وشاحنات نقل وتزويد البضائع بأحجامها الكبيرة والمتوسطة بالإضافة لمركبات المتسوقين، كذلك حافلات نقل الطلبة التي تبقى متمركزة فتُغلق مساحة من الشوارع وتعطل الانسياب المروري وتعرض الناس للخطر.
ولا يغيب عن الذهن أن قيام الأمانة بترخيص آلاف كراجات الأبنية السكنية بقرارات غير مدروسة إلى محلات- تحت ذريعة واهية وهي حاجة المنطقة الفلانية لمحلات!- قد سبب أزمات مرورية إذ حول شوارعها الضيقة إلى كراجات بديلة للسكان، كما أن تقاطر شاحنات نقل وتزويد البضائع إلى هذه المحلات مع مركبات المتسوقين قد قلب موازينها لتصبح مناطق فوضى مرورية بامتياز! ومصيبة المصائب أن ترخيص الكراجات لمحلات يعني التعدي بصورة رسمية على "التهوية " بين الأبنية هذه التهوية التي لا يجوز التعدي عليها حسب القانون!
إن معالجة أزمة السير واجتثاث المسبِّبات حتى وإن كانت بإلغاء تراخيص مُنحت بطرق غير مدروسة أو جراء ضغوط معينة ارتجالية خربت طبيعة المناطق وخلقت فيها أزمات مرورية مسألة لا تحتمل التأجيل. كما لا يَضِيرُ الاستئناس برأي كوادر خَدَمت في دائرة السير إن هذا يُشكِّل عوناً لحلِّ الأزمة القائمة على الشوارع والتقاطعات والدوَّارات ومواقع الإشارات الضَّوئية. وكي يخِفَّ الضغط على الشوارع الرئيسية يكون أجدى تركيب شواخص على مداخل الشوارع المتفرعة عنها التي لا يعلم الكثيرون أنهم إن سلكوها وصلوا إلى مقصدهم. ولا يضيرُ توجيه رجالات السَّير الذين لا نشك بجهودهم إلى مواقع الازدحام المروري المزمِن لأولويَّتِه على مناطق أخرى قد لا تكون الحاجة مُلحَّة لتواجدهم فيها!
بقلم :حنا ميخائيل سلامة نعمان
Comments powered by CComment